العدد 1665 /28-5-2025

ياسر أبو هلالة

توشك حرب الإبادة في غزّة أن تدخل عامها الثالث بمرور 600 يوم عليها، وليس كما تقول البكائيات العربية إن العالم لم يحرّك ساكناً. العالم يحرّك ويتحرّك ويتغيّر إلى الأفضل، إذا استثنيا العالم العربي، ومنه "المملكة العبّاسية" برئاسة محمود عباس ونجله ياسر الذي زار لبنان أخيراً بوصفه "مستشار" والده رئيس السلطة التي تنافس إمارة موناكو بنزع السلاح. وكأن "طوفان الأقصى" لا يخصّ عاصمة الدولة الفلسطينية المحتلة، ولا أقدس مقدّسات المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين.

لا يمكن تخيّل حجم بطولة أبناء غزّة العظام وتضحياتهم في "طوفان الأقصى"، وقد بذلوا عزيز النفوس، والولد والأم والزوج والحفيد، لا لمنصب ولا لمال، وإنما لتحرير شعبهم وصوْن مقدساتهم، وغزّة كلها من القائد يحيى السنوار الذي استشهد ويده على الزناد إلى الطبية التي فقدت أبناءها التسعة ويدها على السمّاعة، كلهم قاوموا وضحّوا بلا حدود. لا فرق بين قائد وجندي مدني وعسكري، بين رجل وامرأة. شهيد يدفن شهيداً. تقدّر هيئة الأمم المتحدة للمرأة مقتل أكثر من 28,000 امرأة وما لا يقل عن 16,278 طفلاً. حوالي 80% هم من المدنيين، مع ملاحظة أن 70% من الضحايا في المباني السكنية من النساء والأطفال. وفي اليوم الذي يتوقف فيه القتل، فإن الحي لا يجد بيتاً يظلّه، إذ تفيد تحليلات الأقمار الصناعية بأن حوالي 174,500 مبنى في غزّة قد تضرّر. وتُقدّر التقارير بأن 92% من الوحدات السكنية قد دُمّرت أو تضرّرت، ما أدّى إلى نزوح جماعي للسكان. تضرّر حوالي 68% من شبكة الطرق في غزّة، ما يعيق حركة التنقل والوصول إلى المساعدات. وأكثر من 95% من الأراضي الزراعية أصبحت غير صالحة للاستخدام، مع تدمير 71.2% من البيوت البلاستيكية و82.8% من الآبار الزراعية. تضرّرت 94% من المستشفيات في غزّة، مع بقاء 12 مستشفى فقط قادرة على تقديم خدمات صحية محدودة، كما يواجه سكّان غزّة خطر المجاعة، حيث يعاني أكثر من تسعة آلاف طفل من سوء التغذية.

ظلّ السنوار في بداية الحرب يماطل في قبول صفقة التبادل ليصل إلى شهر رمضان، وتنتفض أمة العرب والإسلام، مضى رمضانان وما انتفضت، وعبّاس يصف أنبل البشر بـ "أولاد الكلب"، من دون أن يجرؤ على وصف القاتل بأنه أضلّ من الضباع والوحوش. نقطة الضعف الكبرى عربيا هي سلطة عبّاس التي تُحبط أي محاولة لتحقيق أي مكسبٍ للقضية الفلسطينية تعادل قليلا من فائض التضحيات.

منذ اليوم الأول لـ"طوفان الأقصى"، تصرّفت "القيادة" الفلسطينية معه بوصفه تهديداً وجوديا لها. ولذلك كان صادماً لوزراء الخارجية العرب الذين التقوا وزير الخارجية الأميركي السابق، بلينكن، أول مرّة موقف وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي، فقد كان الأسوأ في الاجتماع لا الأضعف، وعليه ارتقى في سلم القيادة عند عبّاس الذي يصرّ على مفهوم السلطة الإسرائيلي، باعتبارها نسخة من جيش لبنان الجنوبي. أي دولة عربية تقول لك إذا كان عبّاس يعتبر حركة حماس "أولاد كلب"، ولا يسمح بمظاهرة تتضامن مع غزّة فماذا ينتظر منا؟

على كل حال، يظلّ الوضع العربي عموماً أفضل من سلطة رام الله. والوضع العالمي يظل أفضل، مع تفاوت بين الدول والنخب والرأي العام الذي شهد أخيراً تحوّلات كبرى أوروبيّاً وأميركياً، وهو ليس التحرّك الأول والأخير، شهد صدور بيانين مؤثرين من فرنسا وبريطانيا يصفان ما يجري في غزّة إبادة جماعية، ويطالبان بتحرّك فوري ضد الحكومة الإسرائيلية. وعلى قول وزير خارجية بلجيكا "لا أعلم ما الفظائع الأخرى التي يجب أن تحدُث في غزة قبل أن نتحدّث عن إبادة جماعية". وقد نشرت صحيفة ليبراسيون الفرنسية أول من أمس الاثنين مقالاً جماعيًا وقّعه أكثر من 300 كاتب ومثقف ناطق بالفرنسية، منهم حائزون على جائزة نوبل، جان ماري غوستاف لوكليزي، بعنوان "لم نعد نستطيع الاكتفاء بكلمة الرعب... يجب اليوم أن نسمّي ما يجري في غزّة بالإبادة الجماعية”. وتناول المقال ملامح الإبادة، وورد فيه أن إسرائيل تقتل الفلسطينيين "بلا هوادة"، وتستهدف الحياة الثقافية والتعليمية بتدمير المكتبات والجامعات. وجاء على استشهاد الشاعرة هبة أبو ندى ومحو أماكن الكتابة والقراءة مثالاً على هذا التدمير الممنهج. ويرى أن تصريحات مسؤولين إسرائيليين (مثل سموتريتش وبن غفير) تعكس نيات إبادة صريحة. وطالب المجتمع الدولي بالتحرّك لفرض عقوبات ووقف فوري لإطلاق النار، وإطلاق سراح الرهائن. كما نشرت صحيفة الغارديان البريطانية أمس الثلاثاء رسالة موقّعة من أكثر من 800 شخصية قانونية، بينهم قضاة محكمة عليا ومحكمة استئناف ومحامون بارزون، دعوا فيها إلى فرض عقوبات على الحكومة الإسرائيلية ووزرائها.

يعكس البيانان تحوّلات في الرأي العام الغربي، يشمل أميركا وأوروبا. وتفيد الاستطلاعات الحديثة بأن تغيرات ملموسة تحدُث في مواقف الشباب والرأي العام حيال القضية الفلسطينية. بحسب استطلاع جامعة هارفارد الأسبوع الماضي، 48% من الأميركيين بين 18 و24 عاماً يؤيدون "حماس" أكثر من إسرائيل، مقارنة بـ 77% من إجمالي الفئات العمرية التي تؤيد إسرائيل، و93% بين من تجاوزوا 65 عاماً. بمعنى أن المستقبل لنا والماضي لعدونا وجزءا من الحاضر في مرحلة انتقالية. وينسجم هذا مع اتجاه عام نامٍ منذ سنوات، وتكثّف بعد "طوفان الأقصى". وقد كشف استطلاع مركز بيو في إبريل/ نيسان الماضي، أن 53% من الأميركيين ينظرون سلباً إلى إسرائيل، بزيادة 11 نقطة منذ العام 2022، وتصل النسبة إلى 69% بين الديمقراطيين. وفي إبريل 2024، أظهرت دراسة لمركز بروكنغز أن 33% من الأميركيين تحت 30 عاماً يتعاطفون مع الفلسطينيين مقابل 14% فقط مع الإسرائيليين. ولا تختلف الحال في أوروبا، في استطلاع YouGov (ديسمبر/ كانون الأول 2023): أظهرت أغلبية في خمس دول أوروبية أنها تؤيد حظر بيع الأسلحة لإسرائيل، منها 65% في إيطاليا و62% في بلجيكا. وفي يوليو/ تموز الماضي ظهر في الاستطلاع نفسه أن التعاطف مع الفلسطينيين في تصاعد، مثلاً في إسبانيا بلغ 34% مقابل 14% فقط مع إسرائيل. وبيّن استطلاع في مارس/ آذار الماضي أن 49% و62% من الأوروبيين في خمس دول يؤيدون محاكمة مسؤولين إسرائيليين بتهم جرائم حرب.

وفي هذا السياق، قرأت صحيفة نيويورك تايمز تصريح الرئيس ترامب "نتحدّث مع إسرائيل، ونريد أن نرى ما إذا كان بإمكاننا إيقاف هذا الوضع بأسرع وقت ممكن"، تحوّلاً في السياسة الأميركية، في تحليلٍ نشرته ، ما يغاير الموقف العلني الذي تبنّاه ترامب عند توليه منصبه في يناير/ كانون الثاني الماضي، عندما ألقى باللوم على "حماس" بدلاً من إسرائيل في استمرار الحرب. وكان حريصاً على إظهار جبهة موحدة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. كما أن بريطانيا أوقفت محادثات التجارة مع إسرائيل، وفرضت عقوبات على مستوطنين متطرفين، وتحضّر فرنسا لمؤتمر دولي مع السعودية لمناقشة إقامة دولة فلسطينية. وقد كتب مراسل الشؤون الدبلوماسية في صحيفة يديعوت أحرونوت، إيتامار آيشنر، الأسبوع الماضي: "بعد 593 يوماً من الحرب، وصلت إسرائيل إلى أدنى نقطة دبلوماسية: بعض من أهم أصدقائها في العالم بريطانيا وفرنسا وكندا، منحوا أنفسهم حرية إصدار بيان يهدد إسرائيل بالعقوبات، إذا واصلت الحرب في غزّة". وأضاف "لم يسبق أن صدر بيان كهذا ضد إسرائيل، ما يحولها إلى دولة منبوذة. الجزء الأكثر إثارة للقلق: الولايات المتحدة، التي دافعت دائمًا عن إسرائيل، ردّت بالصمت"، بتعبيره.

ذلك وكله وغيره مكاسب تاريخية للقضية الفلسطينية، لكنه لا يوقف المجزرة في غزّة. لا بد من تغير في الموقف الفلسطيني والعربي، بدلا من توجّه عباس ونجله إلى لبنان لنزع سلاح المخيمات هناك، عليه أن يتوجّه إلى الدوحة لإنهاء الانقسام الفلسطيني الذي يراهن على إنهائه بقضاء إسرائيل على "حماس"، مع أن "حماس" من أحيا القضية الفلسطينية، وأعاد لها مكانتها. لقد بدأ ترامب ولايته الأولى بزيارة إسرائيل ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، واليوم يتحدّث عن لقائه بأمير قطر "قال لي زعيم من قلبه: الناس في غزّة يتضورون جوعاً"، وتحدّث عن ضرورة إنهاء المعاناة الإنسانية في غزة.

تكشفت هذه النية بوضوح خلال العامين بقدر ما بقيت متستّرة، وخصوصا خلال العقود الثلاثة الماضية، عقب توقيع اتفاق أوسلو. أول ما أخذه الطوفان السردية الصهيونية "أعطينا الفلسطينيين حقوقهم ولم يتبق غير التطبيع". سردية نتنياهو اليوم أن ليس لهم حقوق، ليسوا بشراً، سنبيدهم في حرب أبدية، ولا يهمّنا التوقيع ولا التطبيع، ولا العزلة ولا المقاطعة. وتصلح هذه السردية للائتلاف الحاكم، لكنها لم تعد تقنع حتى ترامب، ناهيك عن الأجيال الأميركية والغربية الجديدة. صحيحٌ أن ترامب محاط بصهاينة متطرفين، ولا يشاهد غير "فوكس نيوز"، لكنه قارئ ممتاز لاستطلاعات الرأي، ولا يفكّر بغير الانتخابات. وهو ما دفعه إلى تغيير مواقفه قياسا بولايته الأولى.

لا يمكن تحمّل ألم مشاهدة أصحاب الأخدود في غزة فكيف بألم ضحايا الإبادة أنفسهم؟ هل يتأثر ترامب بصورة الطفلة الهاربة من الحريق؟ هل يتألم مثل البشر؟ المأمول ذلك، لكن لا يعوّل عليه من دون تغيّر في الموقف العربي وخصوصا الفلسطيني، عندما يفكر عبّاس بأولاد غزة، ولا يعتبر المقاومة "أولاد كلب". عندما يتغيّر الموقف الفلسطيني يتغيّر حكماً الموقف العربي إلى الأفضل.