العدد 1677 /20-8-2025
ممدوح المنير
هذه شهادتي على فضّ
اعتصام رابعة، حيث قدّر الله لي أن أكون متواجدًا يومها حتى نهاية عملية الفض،
وأُصبت برصاصة غادرة من قنّاص في ظهري.
إنها شهادة أدوّنها
للأجيال القادمة، ليستفيدوا منها في معاركهم في سبيل الحق والعدل والحرية، لله
أولًا، ولأوطانهم ثانيًة و لقد ركّزت فيها على الجانب الإنساني دون تعرض للجانب
السياسي حيث إنني قد كتبت سلسلة مقالات على عربي ٢١ حول الجانب السياسي من كافة
جوانبه، هذه المذكرات تركز على التجربة الإنسانية التي تحكي في تفاصيلها حجم
المجزرة وبشاعتها.
جيل رابعة و النهضة
الذي استساغ النوم على الأرض ليبني لأمته طريقًا للحرية والكرامة ، هذا الجيل
سلامٌ عليه ألف سلام، هذا الجيل الذي تحمّل ألم فراق الأحباب، وغياهب السجون،
وزمهرير البرد، وجفاء الصاحب والقريب، في سبيل الله وفي سبيل أمتهم.
ليلة ما قبل الفجر
عرفت بموعد الفضّ عند
الثانية عشرة ليلًا. كنت وقتها قادمًا من مكان آخر في القاهرة ، فقد كنت معتصما في
الميدان أخرج منه أحيانا وأعود ، في هذه الليلة كنت بالخارج منذ الصباح وعدت نحو
منتصف الليل، وتوجهت إلى خيمتي التي أعتصم بها بجوار عمارة المنايفة التي شهدت
المذبحة المروعة التي وثّقتها أحد الأفلام الوثائقية. كنت أستعد للراحة قليلًا من
عناء الطريق، ومن إصابتي بنوبة برد شديدة.
وعندما وضعت رأسي على
الأرض ونمت ، جاءني مسئول ميداني في رابعة وهمس في أذني قائلًا "احتمال كبير
أن يتمّ الفض اليوم”.
جيل رابعة و النهضة
الذي استساغ النوم على الأرض ليبني لأمته طريقًا للحرية والكرامة ، هذا الجيل
سلامٌ عليه ألف سلام، هذا الجيل الذي تحمّل ألم فراق الأحباب، وغياهب السجون،
وزمهرير البرد، وجفاء الصاحب والقريب، في سبيل الله وفي سبيل أمتهم.لم أندهش من
المعلومة لأننا تعودنا على مثلها، فقلت له مازحًا: "زي كل مرة؟ ولا بجد المرة
دي؟”، فقال: رصدنا تحرك قوات كبيرة وضخمة باتجاه الميدان، لكن لا نعلم سيناريو
الفض حتى الآن”. سألته: "وما العمل؟”، قال: سيقف نصف المعتصمين على البوابات
للتأمين، لمواجهة أي طارئ، وينام النصف الآخر حتى صلاة الفجر، لأن هناك مظاهرات
أمام الوزارات التي استلمت عملها في حكومة الانقلاب”.
قلت له متعجبًا: "إذا
كان الفض الآن أو بعد ساعات، هل تتوقع أن ينام أحد؟!”، فقال: لا نعرف ماذا
سيفعلون، قد يحاصرون فقط ويمنعون الخروج أو الدخول، وقد يشتبكون مع الأطراف كما
حدث يوم مذبحة المنصة أو الحرس الجمهوري، فلنتعامل مع الأمور وفق تطورها”.
سألته: "هل معهم
جرافات؟”، فقال: "نعم”. قلت: "أتوقع أن تُخلي هذه القوات الميدان اليوم، وسوف
تتسبب في مذبحة مروعة”. فسألني: "لماذا؟”، قلت: "هزيمته في فضّ الميدان يعني
انكسار الانقلاب وانتهاؤه، وما دام قد قرر الفضّ فسيفضّ مهما كانت الخسائر في
الأرواح، وأتمنى أن تُبنى إجراءات التصدي والمقاومة على ذلك”.
قال: "أعدك أن أنقل
وجهة نظرك وطلب منّي أن أحتفظ بوجهة نظري هذه لنفسي حتى لا أتسبب في توتر أو قلق
بين المعتصمين” قلت له هذه الخيمة التي نقف فيها الآن لن تكون موجودة و سيتم حرق و
تجريف كل شيء ، تصرفوا وفق هذا و إذا لم يكن لديكم خطة، فانسحاب تكتيكي يحقن
الدماء هو واجب الوقت" نظر لي مندهشا فزعا و أحسست أنّ عقله غير قادر على
تصور هذا السيناريو وفي محاولة مني أخيرة ، جمعت أشيائي، وأخرجت متعلقاتي الشخصية
الهامة، ووضعتها في جيبي، وغيرت ملابسي بشكل يسمح بسهولة الحركة وقلت له لقد فعلت
ذلك لأن هذا المكان لن يكون له وجود بعد قليل وهو ينظر لي في صمت.
لم أرد أن أسبب قلقًا
لمن حولي بوجهة نظري عن الفض، فأخذت أتأمل في وجوههم وهم نائمون، لا أدري هل
سيقدّر الله لي رؤيتهم ثانية، أم ماذا سيفعل الله بنا؟ وأخذت أستغفر الله ليطمئن
قلبي المتوجس خيفة. ثم انشغل الميدان بقيام الليل والتضرع إلى الله، وارتفع البكاء
والنحيب في الصلاة من الأيادي المرفوعة إلى السماء تستمد من الله العون والثبات،
لكني شعرت بالذنب مخافة أن أحمل وزر الدماء التي تسقط فكتبت على صفحتي على
الفيسبوك وقتها و لا تزال التغريدة موجودة أننا ننتظر أن يتم فض الميدان خلال
الساعات القادمة لأبرئ ذمتي أمام الله.
تأمين الميدان
تناولنا جميعًا طعام
السحور ، حيث كان المعتصمون يصومون باقي الأيام الستة عقب رمضان، ثم صلينا الفجر
جماعة، لكني لاحظت أن الحركة في الميدان لم تهدأ. انشغلت مجموعات التأمين بتقوية
السواتر الترابية المنصوبة على مشارف الميدان، وبدا أن الجميع في انتظار العاصفة.
البعض أمسك بمصحفه يبحث فيه عن طمأنينة القلب، وآخرون يجمعون أشياءهم المهمة،
وآخرون يجهزون الإسعافات الأولية ضد الغاز، وفريق يصفّ براميل الماء في جوانب
الطريق، بعضها للشرب، وبعضها لوضع قنابل الغاز فيها لتقليل أثرها.
لم ينم أحد بطبيعة
الحال، حتى أوشكت شمس الصباح الأخيرة على الميدان أن تشرق، وبدأ صوت الآليات
والجرافات يقترب، وصوتها يعلو، وكأنها تعزف لحن الموت المنتظر في كل جنبات
الميدان. علت هتافات المنصة بالصمود والمقاومة وعدم السماح لهم بالاقتراب من
الميدان، لكن هيهات… لم يعلم القائمون على الاعتصام أنهم يتعاملون مع وحوش ضارية
في صورة بشر، انتزعت الرحمة من قلوبهم، فلا تعرف للارتواء من الدماء سبيلًا.
ثم فجأة، ودون سابق
إنذار، رأينا الرصاصات القاتلة تمطرنا من كل جانب، حتى من البنايات العسكرية
المحيطة بالميدان، ومن فوق أسطح العمارات.
أول شهيد
قبل بدء انهمار الرصاص
بدقائق، أخذت حقائبي وتوجهت إلى المركز الإعلامي. كنت أساعدهم في صياغة الأخبار،
أو الرد على الشائعات التي يبثها إعلام الانقلاب عن المعتصمين، أو أقوم بمداخلات
فضائية لتوضيح موقف المعتصمين. لكن ما بات واضحًا هو أن الدور الوحيد الممكن هو
توثيق أسماء الشهداء والمصابين.
انضممت للمعتصمين من
ناحية عمارة المنايفة حتى حدث أمامي موقف أسطوري بكل ما تعنيه الكلمة، أكتب إليكم
هذه القصة ودموعي تنساب منّي رغما عنّي، كلما كفكفتها عادت تترى كأنها تشاركني
الكتابة وتمدني بمداد قلم، لتنال معي الشرف وأي شرف أن تكتب عن هذا البطل (نحو
ستين عاما).التقطت بهاتفي صورة أول شهيد يصل إلى المركز بعد أن تحوّل إلى مستشفى
ميداني، إذ بدأ المستشفى الميداني الرئيسي يمتلئ بالمصابين والجثث، رغم أننا كنا
في الساعة الأولى فقط من بدء الاقتحام!
طلب منا جميعًا
المغادرة لأن المستشفى والمركز الإعلامي وما يحيط بهما كانت أكثر المناطق
استهدافًا بالرصاص والمدافع الآلية. خرجت لأنضم إلى الثوار عند بوابة شارع الطيران
أمام عمارة المنايفة، لكن ما إن خرجت حتى رأيت النساء يصرخن، والأطفال يبكون،
والمصابين يتواردون بلا توقف.
الرجل والجرافة
بعدما توجهت، في
الساعة الأولى للفض، من المركز الإعلامي إلى مدخل الميدان من شارع الطيران بجوار
مستشفى التأمين الصحي، كان الجو معبأ بالغاز عن آخره، فدمعت عيني سريعا ولم أستطع
التنفس لكنى واصلت المسير وسط هتافات الحماس التي تهز الميدان، الجميع تقريبا يضع أقنعة الغاز والشباب المكلف
باستخدام البخاخات التي تحتوي على الخلّ للتخفيف من حدة الغاز يمرون دون توقف ودون
خوف ويرشّونه على الجميع، والبعض الآخر يحمل البصل والمياه الغازية لنفس الغرض.
كان الجميع فى ساعات
الفض يضع أقنعة الغاز، وسحابات الدخان تبدو واضحة، وجراكن المياه في كل مكان وكانت
القنابل توضع فيها لتقليل تأثيرها.
حتى وصلت إلى البوابة
وهناك وجدت المدرعات تقذف النيران دون توقف والجرافات تحاول إزاحة الساتر الترابي
وسط صمود أسطوري من الشباب الذي لم يكن معه أي شيء سوى الحجارة يرميها على الجرافة
أو القنّاصة حتى يشتت انتباههم .
انضممت للمعتصمين من
ناحية عمارة المنايفة حتى حدث أمامي موقف أسطوري بكل ما تعنيه الكلمة، أكتب إليكم
هذه القصة ودموعي تنساب منّي رغما عنّي، كلما كفكفتها عادت تترى كأنها تشاركني
الكتابة وتمدني بمداد قلم، لتنال معي الشرف وأي شرف أن تكتب عن هذا البطل (نحو
ستين عاما).
لم أكن أعرفه من قبل،
لكنه كان قد جاء ليلة الفض. نام إلى جواري في الخيمة وتعرفت عليه سريعا. لم أكن
أعرف حينها أنني أتعرف على شهيد يمشي على الأرض، ربما لا يعرفه الكثيرون ولم يقل
له أحد أنت بطل، ولم يقل له أحد أنت شهيد ! لكن الله وملائكته وأهل السماء يعرفونه
جيدا، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله.
كنّا وقتها فى الساعات
الأولى من فض اعتصام رابعة بشارع الطيران، والمعتصمون يحاولون عرقلتهم عن التقدم
بصدورهم العارية وأيديهم الخالية، لكن شهوة الدم الحرام كانت كبيرة، فتساقط من
حولي الشهداء والجرحى.
ثم أطلقت قنابل الغاز
بكثافة شديدة فتساقط الجميع وتراجعوا رغما عنهم بحثا عن نسمة هواء نقية حتى لا
نموت اختناقا وكنت قد أصبت بقنبلة غاز كادت أن تزهق روحي لولا أن الله سلم وأنقذني
المسعفون .
حينها استغلت الجرّافة
الفرصة واقتربت من الساتر الترابي لتزيله تفتح الطريق للمدرعات والقوات للتقدم ،
وعندها ظهر البطل، هذا الرجل الستيني يجري وحيدا ناحية الجرافة التي تزيل الساتر
الترابي وهو يلوح لها ملتاعا غاضبا مشيرا ألا تقترب، كأنه يقول لها لا تهدمي الحلم
الجميل والعيش النبيل، لا تهدمي الصحبة الصالحة وقيام الليل وصيام النهار، لا
تفتحي طريقا للشرّ، الله وحده أعلم متى يغلق.
لكنها تحركت وكأن
قائدها مغيب الوعي والضمير ، وتقابل الاثنان عند الساتر الترابي الرجل والجرّافة
في مشهد أسطوري لا يعرف قيمته إلا من عاشه، فلمّا يئس من أن تقف، فعل المستحيل بكل
ما تعنيه الكلمة.
وجدته يتحرك مسرعا
نحوها، وفجأة ارتمى داخل الجاروف (القادوس) ونام فيه لعله يتوقف، لكنه جرفه وداسه
تحت عجلاته ليسقط شهيدا وهو المشهد الذي أذاعته الجزيرة وقتها ولكن ما تم إذاعته
كان مشهد جرفه بعيدا في أحد جوانب الميدان.
أشعل هذا المشهد غضب
المتظاهرين فبثّ فيهم القوة بعد ضعف وعزيمة بعد وهن، لتستمر ملحمة الصمود ويرتقي
المئات من الشهداء.