علي الصالح

عديدة تلك النداءات والمناشدات التي يناشد فيها المسؤولون الفلسطينيون، «الأشقاء» العرب والمسلمين لتوفير شبكة الأمان السياسي والمالي للفلسطينيين، دعماً لهم في مواجهتهم أعتى دولة احتلال، وقرارات أمريكية داعمة لها ظالمة أو مظلومة، وهي طبعاً الظالمة دوماً، آخرها قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال ونقل سفارته إليها. 
وإمعاناً في العنجهية والتحدي، أسقط ملف القدس من طاولة المفاوضات، كما قال متبجحاً وإلى جانبه نتن ياهو في المنتدى الاقتصادي في دافوس يوم الخميس 25/1. ولرش الملح فوق الجراح جاء نائبه مايك بنس، بقناعاته اليمينية المتطرفة، غير عابئ بأحد، إلى القدس، ليؤكد مجدداً أنها عاصمة إسرائيل، وليحدد موعد نقل السفارة إليها قبل نهاية عام 2019، وذلك في خطاب من على منبر الكنيست، وُصف إسرائيلياً بأنه الخطاب الأكثر صهيونية، والأكثر تعاطفاً مع إسرائيل، والأكثر تساوقاً وتماهياً مع سياسات حكومتها الاحتلالية العنصرية الدموية. 
مناشدات ونداءات يصر المسؤولون الفلسطينيون من كل الأطياف على تكرارها صباحاً ومساءً، حتى أصبحت كالإسطوانات المشروخة، لعل وعسى تستجاب إحداها فتجد في غفلة من الزمن آذاناً عربية وإسلامية رسمية صاغية، نداءات يعرف أصحابها قبل غيرهم، أنها ستنزل على آذان صماء، يصدق فيها قول الشاعر: «لقد أسمعت لو ناديت حياً... ولكن لا حياة لمن تنادي، ولو نار نفخت بها أضاءت، ولكن أنت تنفخ في رماد».
فعلاً شرّ البلية ما يضحك، ألم يستوعب مسؤولونا من كل الأطراف والأطياف أن نداءاتهم «كمن ينفخ في قربة مقطوعة»، ألم يدركوا حتى الآن أن ما قام ويقوم به ترامب وإدارته اليمينية المتشددة يأتي في سياق ما يسمى صفقة القرن؟ وأن اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل هو في صلب صفقة القرن، وأن هذه الصفقة تجري بالتنسيق مع بعض الدول العربية التي يناشدونها بالوقوف في وجه ترامب دفاعاً عن القدس ومقدساتها، يعني بصريح العبارة أن هذه الدول هي جزء من المؤامرة الكبرى، جزء من الشرق الأوسط الجديد، الذي تعمل إدارة ترامب وحكومة نتن ياهو من خلاله، على تغيير وقلب الثوابت والمفاهيم والمعادلة القائمة في الشرق الأوسط منذ أكثر من70 عاماً، مفادها أن إسرائيل هي محراك الشر، وسبب كل المشاكل التي عاشتها وتعيشها وستعيشها المنطقة لسنوات مقبلة. 
وللذين اكتشفوا مؤخراً عداء امريكا، ويصرحون كل يوم بأن «الإدارة الأمريكية وضعت نفسها في  خندق معاد للشعب الفلسطيني»، نقول كفى ترديداً لهذه اللازمة، خلاص يا أيها المسؤولون عنا والقائمون على حمايتنا، ويا من تقررون سياساتنا، ويا من تضعون استراتيجياتنا، فهمنا أن الولايات المتحدة خصمنا بل عدونا: بعد 70 سنة على نكبة فلسطين، و50 سنة على نكسة حزيران 1967، وبعد الجسر الجوي لنقل السلاح إلى إسرائيل خلال حرب أكتوبر 1973، وبعد44 استخداما لـ«الفيتو»، ضد قرارات تتعلق بالقضية الفلسطينية في مجلس الأمن الدولي.
بعد نحو 25 عاماً على اتفاق أوسلو، شهدت البلاد ازدهاراً كبيراً في بناء المستوطنات وتضاعفاً في أعداد المستوطنين، تحت بصر وسمع الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض، وبعد 25 من مفاوضات تتوقف لتعود إلى المربع الأول ثم تُستأنف فتعود مجدداً إلى المربع الأول وهكذا، وبعد نحو 25 عاماً من العلاقات مع واشنطن لم يرفع خلالها اسم منظمة التحرير الفلسطينية عن قائمة الإرهاب.
كل هذه الأدلة لم تكن كافية لإقناعنا في الماضي بأن واشنطن لم تكن راعياً نزيهاً لرعاية للمفاوضات، ومنحازة فحسب، بل ضالعة من خلال مليارات الدولارات التي تنفقها على دولة الاحتلال، والسلاح الذي تقدمه لجيش الاحتلال، والقوة البشرية التي تزود بها الاستيطان، حتى جاءت اللطمة الكبرى باعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، تلك اللطمة التي كانت الشعرة التي قصمت ظهر بعيرنا فلم يعد قادراً على التحمل. فهمنا أن الإدارة الأمريكية عدوّ لنا على طول الخط، فلا داعي للتكرار، الذي إن دل على شيء فإنما يدل على مدى العجز الذي نحن فيه، ونعوّض الأفعال بالأقوال.
وأخيراً نحمد الله ونشكر دونالد ترامب على إعادة الصواب إلى عقولنا، وتعريفنا بمن هو عدونا الحقيقي، وما فعله ترامب عملياً هو ما كان يفعله أسلافه من الرؤساء الأمريكيين تحت غطاء جهود السلام، شكراً لترامب على فسح المجال لنا لإعادة النظر في سياساتنا الخطأ، والسماح لنا دون إحساس بالخوف بالقول لا لأمريكا، ولولا قراره لبقينا على عمانا وبساط فلسطين والقدس يسحب من تحت أرجلنا ونحن راضون.}