ياسر ذويب
كان قرار حصار دولة قطر -الذي اتخذته الإمارات والسعودية والدول التابعة لهما- قراراً خطيراً في كامل أبعاده السياسية والأيديولوجية والاجتماعية، في سابقة سجلتها دول المنطقة على نفسها وفي إقليمها المتوتر أصلاً؛ ما جعل الأزمة الخليجية تأخذ أبعاداً أعمق بكثير من كونها مجرد خلافات في وجهات النظر.
قد لا نختلف كثيراً في أن كل الدول تناور في بعض المجالات التنافسية، وقد نعتبر ذلك أمراً صحياً إذا نظرنا إلى بعض الأمثلة في دول الاتحاد الأوروبي، كالمنافسة الموجودة بين فرنسا وألمانيا مثلاً أو بين الدول الإسكندنافية.
إلا أن الأزمة الخليجية لا تندرج ضمن هذا الإطار، بل هي أزمة فكر سياسي لدى بعض الأنظمة العربية الخليجية التي اختارت إرادة قهر الشعوب على إرادة الحياة لشعوبها وأمنها، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا عوقبت قطر وليس غيرها؟
يجدر بنا أن نهتم بالتركيبة السياسية لمجلس التعاون الخليجي الذي يمثل البرلمان المصغر لدول المنطقة، وقد أصبح المجلس غير قادر على استيعاب هذا الخلاف المتنامي بين دول المنطقة في الرؤية السياسية، وعبرت فيه بعض الدول كالسعودية والإمارات عن تباين أيديولوجي واضح مع السياسة التي اتخذتها دولة قطر تجاه أهم الأحداث التي عاشها الوطن العربي في السنوات الأخيرة، وأهمها قضية الربيع العربي وأزمة الأنظمة مع شعوبها في قضايا حقوق الإنسان وحرية التعبير والصحافة.
نعم، لقد شخّص ظهور قناة الجزيرة علل وأمراض النسيج السياسي والاجتماعي للوطن العربي، وفضح اهتراء الطلاء الخارجي الذي كانت تتباهى به نخب فكرية قريبة من أنظمة الحكم العربية، وتكلّس صانع القرار السياسي في الوطن العربي الذي لم يفهم أن العالم قد تغير.
كانت ثورات الربيع العربي نتاجاً لسياسة القمع والاستبداد السياسي الذي فتك بالحريات السياسية وبكل الحريات، ولم يفهم النظام العربي القديم أن الانتخابات التي جاءت -بعد الربيع العربي- بنخب سياسية جديدة هي نتاج لاختيار الشعوب، وليست انقلابات عسكرية وأمنية.
اصطفت الإمارات والسعودية مع خندق الثورة المضادة في تحدٍّ سافر لنهضة الأمة والشعوب العربية، ولم تفهم أن التغيير من السنن الكونية التي لا يمكن التصدي لها، وكان هذا بدايةً ما جعل صانع القرار السياسي في دولة قطر يتفوق -في فهمه للمتغيرات السياسية والاستراتيجية- على سائر ما تبقى من المنظومة البالية للنظام العربي القديم، فأخذ طريق الإصلاح بدلاً من محاربته.
لقد أبانت أزمة الخليج وحصار قطر أن صانع القرار القطري نجح في إدارة معركة الإصلاح، وفي تبني صحوة الشعوب العربية وقضاياها وفضح بمواقفه من حاصره. وقد لا يكون هذا كافياً بالنسبة إلى موقف دول الحصار الذي يبدو أنه مستعد للتضحية بمنظومة مجلس التعاون الخليجي، حتى لو خسر التوازن الاستراتيجي لهذا المجلس؛ رغم وساطة الكويت.
وواضح أيضاً أنه ليس من صالح دول الخليج -كمنظومة اجتماعية وسياسية متجانسة- أن يختل التوازن في البيت الخليجي، فيتحول إلى منظومة سياسية ترتكز على الإملاءات وتدمير سيادة دول المنطقة.
ولن يكون هذا في صالح استقرار المنطقة ولا مؤسسة التعاون الخليجي التي تعتبر -على الأقل مقارنة ببعض المؤسسات الإقليمية الأخرى بما فيها الجامعة العربية- أحسن حالاً، نظراً لديمومة سعيها نحو التكامل وتعزيز العمل الخليجي السياسي والاقتصادي الذي كان حتى قبيل الأزمة مطلباً ملحاً لشعوب المنطقة.
قد يتبادر إلى أذهان البعض أن الأزمة الخليجية ليست في طريقها إلى الحل نظراً للتباين الحاد الذي شكله هذا الخلاف السياسي، ولخطورة مواقف دول الحصار التي لوّحت بالتدخل العسكري في قطر، وهذا في عرف العلاقات الدولية -وفي منطقة حساسة من العالم كمنطقة الخليج- يعد أمراً مرفوضاً جملة وتفصيلاً، لما يسبّبه من مساس بالتوازن الاستراتيجي للمنطقة لصالح طرف دون آخر، قد لا يقبل به الغرب وحتى دول المنطقة كإيران وتركيا وروسيا.
لا بديل إذن لحل الأزمة إلا بالرجوع إلى طاولة الحوار، وهو الموقف الذي أكدته دولة قطر بشروط واقعية ومنطقية تأخذ بعين الاعتبار احترام سيادة الدول وسيادة قرارها.
وهذا -في تصوري- يصب في صالح كل الأطراف بما فيها الطرف السعودي الذي وإن لم يبدِ اهتماماً بهذه الصيغة التوافقية لحل الأزمة؛ إلا أنه يبحث عن مخرج سياسي ودبلوماسي لهذه الأزمة بسبب قضايا الداخل السعودي وحرب اليمن، خاصة إثر نجاح استراتيجية صانع القرار القطري في إدارة لعبة العلاقات العامة مع كل الأطراف الدولية التي يهمها حل الأزمة الخليجية.
يبقى إذن الموقف الإماراتي المتطرف الذي ابتعد عن لغة العقل في إدارة الشأن السياسي الدولي والخليجي، وهو بهذه الصيغة يخرب كل الفرص التي قد تلوح في المستقبل، ويؤكد كذلك فشل القيادة الإماراتية في ربح القلوب نظراً لمواقفها المعادية لتطلعات الشعوب العربية، وتجفيف منابع آمال الربيع العربي، ما خلّف لصانع القرار الإماراتي كراهية وحقداً على دولة كان مؤسسها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (رحمه الله) من أشرف الزعماء العرب.
إن المضي في اختلاق معارضين للسياسة القطرية وتأجيج دعاوى الإرهاب الفجة أصبح مدعاة للسخرية في كبريات دوائر صنع القرار السياسي في الغرب، وقد يفرض هذا على الغرب التدخل المباشر لحل أزمة الخليج إذا لم تنجح الوساطات المحلية، وذلك حفاظاً على التوازن الإقليمي وتدفق النفط بأسعار معقولة.
فالموقف الأميركي كان في البداية -على مستوى البيت الأبيض- متعاطفاً مع وجهة النظر السعودية، إلا أن تقييم الموقف المتزن لدى وزارتيْ الخارجية والدفاع الأميركيتيْن فرض على الرئيس دونالد ترمب تعديل موقفه، والرجوع إلى دور الوسيط النزيه لحل الأزمة.
يجدر بنا ألا ننسى دور دول المنطقة المساهمة في حل الأزمة؛ كالدور التركي الهام الذي أعطى لصانع القرار القطري نوعاً من الأريحية عندما أرسل في بداية الأزمة قواتٍ معتبرة من الجيش التركي، حين كان سيناريو التدخل العسكري حاضراً ضمن الخيارات التي كانت مطروحة في أجندة دول الحصار.
وقد دعم هذا الموقف التركي الشريف فكرة الحلف التركي- القطري، وهو حلف استراتيجي يسانده تيار كبير من الأمة ومن شعوب دول الربيع العربي، ولم تكن محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا بعيدة عن مخططات أبو ظبي المضادة لثورات الشعوب.
ويبقى الموقف الإيراني الذي قد يكون إحدى أوراق التخويف والضغط ولكن في حدود ضيقة. لقد نجحت إيران في إدارة المناورة الاستراتيجية بالمنطقة، بعد أن كانت طرفاً مغضوباً عليه لتدخلها السافر في المنطقة من الثورة السورية إلى حرب اليمن.
ماذا بقي إذن من بديل سياسي لدول المنطقة في ظل تعنت المحور المحاصر في محاربة وإبعاد التيار الإسلامي السُّني المعتدل المتمثل في الحركة الإسلامية، وفي طليعتها جماعة الإخوان المسلمين والمثقفون المعتدلون داخل الإمارات والسعودية؛ فسياسة الأرض المحروقة التي تتبعها -حتى الآن- دول الحصار أضعفت جهود محاربة الإرهاب بكل صيغه، وهو أمر غير مفيد للمنطقة ولا للوطن العربي والإسلامي.}