العدد 1653 /26-2-2025
سامر إلياس
كشف الشهر الأول من حكم الرئيس الأميركي دونالد
ترامب أن الأزمة بين الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي تعدّ الأسوأ
والأعمق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض
(تسلّم الحكم في 20 يناير/كانون الثاني 2025) باتت العلاقات الأميركية- الأوروبية
أقرب للتدهور، والوضع العالمي أكثر غموضاً مما كان عليه على مدى فترة طويلة. يأتي
ذلك وسط تزايد التحذيرات من أن استبعاد أوروبا أو تهميشها في الملف الأوكراني
المرتبط عضوياً بالأمن الأوروبي، يمثل جزءاً من توجه لإرساء قواعد نظام عالمي
جديد، تتقاسم فيه الدول الكبرى، خصوصاً أميركا وروسيا، العالم مرة أخرى بما هي
مناطق مصالح ونفوذ، في إعادة استنساخ لمؤتمر يالطا، الذي عقد في فبراير/شباط 1945
جنوبي شبه جزيرة القرم، بين الاتحاد السوفييتي حينها والولايات المتحدة وبريطانيا.
معادلات جديدة في العلاقات الأميركية- الأوروبية
طفت على السطح في الأيام الأخيرة مؤشرات على أن
الرابط عبر الأطلسي أصبح ضعيفاً جداً، بمقتضى المعادلات الجديدة التي يسعى ترامب لإرسائها،
والتي ستحكم العلاقات الأميركية- الأوروبية على مدى السنوات الأربع المقبلة. ومن
الدلالات على ذلك إعلان وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث في كلمة ألقاها بمقر حلف
شمال الأطلسي (ناتو) في بروكسل، يوم 12 فبراير الحالي، أن الولايات المتحدة لم تعد
تضع أمن أوروبا على رأس جدول أعمالها، قائلاً إن "حماية الأمن الأوروبي يجب
أن تكون ضرورة ملحّة للأعضاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي"، محذراً من أن
واشنطن لن تقبل بما تعتبره تقاسماً "غير متوازن" للأعباء داخل الحلف. لا
يعني أنه لم يعد بإمكان الدول الأصغر في الغرب أن تعتمد على حماية الولايات
المتحدة، فحسب، بل ولا حتى إمكانية حماية نفسها من أن تكون في مرمى النيران
الأميركية الصديقة، مثلما حصل مع كندا والدنمارك، البلدين العضوين في حلف ناتو.
يطرح ذلك سؤالاً تجنّبت البلدان الأوروبية الإجابة عنه طويلاً ويتعلق بالمستقبل الأمني
لأوروبا في حال توقفت الولايات المتحدة عن الاهتمام بالقارة العجوز بنفس الطريقة
التي كانت تهتم بها على مدى الثمانين سنة الماضية.
خيبة أمل أوروبية
وسط توتر العلاقات الأميركية- الأوروبية كانت
البلدان الأوروبية تأمل بأن تُشكّل الحوارات في مؤتمر ميونخ للأمن، الذي عقد بين
14 و16 فبراير الحالي، منصة لإعادة بناء علاقات مع إدارة ترامب، تتجاوز التصريحات
العاصفة التي أدلى بها الرئيس الأميركي وأركان إدارته، حول التزامات الولايات
المتحدة بأمن أوروبا، وكيفية معالجة الملف الأوكراني. لكن ما حصل عليه الأوروبيون
هو السيناريو الأكثر سوداوية، إذ فاجأ نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس الجميع، في
الكلمة التي ألقاها في افتتاح المؤتمر، بتوجيه انتقادات لاذعة للبلدان الأوروبية،
بسبب ما وصفه تراجع حرية التعبير، لعدم تمكين بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة
المناهضة للهجرة بدخول الساحة السياسية. وأشار فانس بشكل غير مباشر إلى حزب البديل
من أجل ألمانيا المتأثر بالنازية. كما أكد أن ما يُقلقه، أكثر من أي شيء آخر،
بخصوص أوروبا هو التهديد من الداخل (بسبب المهاجرين)، وتراجع أوروبا عن بعض قيمها
الأساسية، وليس التهديد من روسيا أو الصين، ولا من أي طرف خارجي آخر.
وفي رسالة ذات مغزى لألمانيا، وكل البلدان
الأوروبية الأخرى، التقى فانس زعيمة "البديل"، أليس فايدل، على هامش
مؤتمر ميونخ للأمن، دون أن يلتقي المستشار الألماني المنتهية ولايته أولاف شولتز.
وسبق أن حصل حزب "البديل" اليميني المتطرف على دعم إيلون ماسك، أغنى رجل
في العالم، ومستشار ترامب والمقرب منه. ورأت برلين، والعواصم الأوروبية الأخرى، في
أقوال وتصرفات فانس، سلوكاً يتخطى التدخل المرفوض في الشؤون الداخلية الألمانية
قبل الانتخابات التشريعية التي جرت في 23 فبراير الحالي، إلى سعي واشنطن لإعادة
هندسة النظام السياسي الأوروبي ككل، بما يتماشى مع رؤية ترامب وإدارته، سواء حول
علاقات واشنطن مع القوى العالمية أو العلاقات الأميركية- الأوروبية.
اكتملت دائرة المخاوف الأوروبية، بإدراك قادة
البلدان الأوروبية أن ترامب أغلق الباب في وجوههم بخصوص المشاركة في المباحثات الأميركية
الروسية التي استضافتها الرياض، في 18 فبراير الحالي، وعدم قدرتهم على تغيير
موقفه. بالإضافة إلى فشلهم، في قمة باريس المصغرة غير الرسمية، التي جمعت يوم 17
فبراير، قادة ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبولندا والدنمارك والمملكة المتحدة، في
التوصل إلى موقف موحد بشأن خطة ترامب لتسوية الملف الأوكراني، وعلى وجه التحديد
البند المتعلق بإنشاء قوات حفظ سلام أوروبية وإرسالها إلى أوكرانيا، دون الحصول
على ضمانات أمنية أميركية. يستمد الملف الأوكراني حساسية كبيرة في الاستراتيجيات
الأمنية والدفاعية لغالبية البلدان الأوروبية، لاسيما بعد الاجتياح الروسي
لأوكرانيا عام 2022، من زاوية اعتبار أن الأزمة الأوكرانية وثيقة الصلة بأمن
أوروبا، وبالتالي، فإن مضمون أي تسوية لها سيكون مصيرياً لاستقرار أوروبا
ومستقبلها، وعلى ما يبدو ستؤثر كذلك على العلاقات الأميركية- الأوروبية.
ووفقاً لتقديرات خبراء استراتيجيين أوروبيين، كان
من الممكن، إلى حد ما، تعزيز أمن أوكرانيا في إطار عضويتها في الاتحاد الأوروبي،
لكن بند التضامن، في هذا التكتل ليس كافياً حتى بالنسبة للدول الأعضاء في الاتحاد.
فقد تآكلت فعاليته بدرجة أكبر في ظل تراجع الولايات الأميركية عن الضمانات الأمنية
لأوروبا، وتنامي الشكوك إزاء مستقبل حلف شمال الأطلسي والدور الذي تولاه منذ
تأسيسه عام 1949. والسؤال المهم هو هل سيبقى الحلف ضمانة للأمن الأوروبي، من منظور
أنه كان يمثل في استراتيجيات الدول الأوروبية الأعضاء فيه الركيزة الأساسية للردع؟
والتقى ترامب في البيت الأبيض، يوم الاثنين
الماضي، نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي تحدث بعد اللقاء عن "نقطة تحوّل
في مناقشاتنا"، ووجّه حديثه لترامب قائلاً: "نحن نتشارك الرغبة في تحقيق
السلام"، لكنه شدد على أن "السلام لا يمكن أن يعني استسلام
أوكرانيا". وأكد أن "لدى الرئيس ترامب سبباً وجيهاً لتجديد الحوار مع
الرئيس (الروسي فلاديمير) بوتين". كما قال ماكرون في مقابلة مع شبكة فوكس
نيوز عقب لقائه ترامب: "لا يمكن لك أن تخوض حرباً تجارية مع الصين وأوروبا في
آن معاً". من جهته، قال ترامب إن الرئيس الفرنسي متفق معه على أن تكلفة
السلام في أوكرانيا يجب أن تتحملها أوروبا بجانب الولايات المتحدة.
الاختيار بين "يالطا"
و"هلسنكي"
كانت مؤشرات تصدع العلاقات الأميركية- الأوروبية
في ذروتها، خلال مؤتمر ميونخ للأمن، الأخير. وتحت تأثير خطة ترامب لتسوية الأزمة
الأوكرانية (احتمال عدم عودة أوكرانيا إلى حدود ما قبل عام 2014، حين استولت روسيا
على شبه جزيرة القرم ثم احتلت أجزاء في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك، شرقي أوكرانيا)،
تطرقت النقاشات في المؤتمر، إلى وجود أوجه شبه كثيرة بين هذه الخطة ومخرجات مؤتمر
ميونخ، الذي عقد في سبتمبر/ أيلول 1938، حين قبلت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا بأن
تضم ألمانيا منطقة سوديتنلاند التشيكوسلوفاكية، لاحتواء مطالب زعيم ألمانيا
النازية أدولف هتلر، التوسعية. ووصفت مخرجات المؤتمر حينذاك بأنها خيانة، لأنه لم
تتم دعوة تشيكوسلوفاكيا لحضوره، غير أن التنازل الذي حصل عليه هتلر لم يمنعه من
العودة للمطالبة بضم كل أراضي تشيكوسلوفاكيا. وفي سبتمبر 1939 شن هتلر هجوماً
كاسحاً على بولندا، بناء على تقدير لديه بأن بريطانيا وفرنسا ستتراجعان عن
تعهداتهما الأمنية لبولندا. لكن بعد أربعة أيام من الهجوم على بولندا أعلنت
بريطانيا ثم فرنسا الحرب على ألمانيا وبدأت الحرب العالمية الثانية.
مما لا شك فيه أن استحضار أوجه الشبه في النقاشات
له ما يبرره، إلا أن الرئيس الفنلندي ألكسندر ستوب، قال في المناظرة التي شارك
فيها صباح يوم الأحد 16 فبراير الحالي، إن الأمر لا يتعلق بمؤتمر "ميونخ
2"، نسبة إلى مؤتمر ميونخ 1938، بل يتعلق باسمي مدينتين أخريين:
"يالطا" و"هلسنكي". وأوضح الرئيس الفنلندي أنه في مؤتمر يالطا
عام 1945 قسّمت القوى العظمى، الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي،
أوروبا ما بعد الحرب إلى مناطق نفوذ. في حين هدف مؤتمر هلسنكي عام 1975 إلى إنشاء
هيكل أمني أوروبي، يرتكز، من بين أمور أخرى، على مبادئ احترام حدود الدولة.
وأضاف ستوب أن "الاختيار الذي لدينا اليوم هو
بين يالطا وهلسنكي. وبالنسبة لي، بصفتي شخصا قادما من بلد صغير يبلغ طول حدوده
1340 كيلومتراً مع قوة إمبريالية (في إشارة إلى روسيا)، أعتقد أنه ينبغي أن يكون
لدينا المزيد من هلسنكي والأقل من يالطا". ويمثل الطرح الفنلندي هذا واقع حال
خطاب كثير من البلدان الأوروبية التي ترى اليوم أن سياسات ترامب هي أقرب ما تكون
إلى العقلية الاستعمارية التي حكمت "مؤتمر يالطا"، وتنقلب على مخرجات
"مؤتمر هلسنكي". وهذا جلي تماماً من خلال ما يقوله ترامب عن رغبته بأن
تكون كندا الولاية الأميركية الـ51، وشراء جزيرة غرينلاند الدنماركية، والاستيلاء
على قناة بنما مجدداً، والسيطرة على قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين منه، والاستحواذ
على نصف ثروات أوكرانيا من المعادن النادرة.
طلبات ثقيلة من أوروبا
يبدو أن استراتيجية ترامب تكمن في مزيد من الضغوط
لرسم علاقات بلاده مع الخصوم والحلفاء، بما يشمل العلاقات الأميركية- الأوروبية.
يضغط ترامب على بلدان الاتحاد الأوروبي، الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، من أجل رفع
إنفاقها الدفاعي إلى 5% من ناتجها المحلي الإجمالي، علماً أن الولايات المتحدة
نفسها غير قريبة من هذه النسبة (حوالي 3.5%)، ولا يوجد قرار من هذا القبيل لحلف
شمال الأطلسي أيضاً. ومن المرجح أن يتم وضع أرضية جديدة في قمة حلف شمال الأطلسي
في لاهاي الصيف المقبل. وتركز جميع الدول الأوروبية تقريباً بالفعل على زيادة
الإنفاق الدفاعي إلى ما لا يقل عن 3% خلال السنوات القليلة المقبلة، وهو أعلى من
نسبة 2% التي اقترحها ترامب خلال ولايته الرئاسية الأولى (2017-2021)، ومع ذلك،
يواصل توجيه انتقادات حادة للبلدان الأوروبية. وعلاوة على ذلك بدأ حرباً تجارية
ضدها، باعتزامه فرض رسوم جمركية على الاتحاد الأوروبي.
في المقابل، فإن الحكومات لا تتمتع بالدعم الشعبي
اللازم لمضاعفة إنفاقها الدفاعي خلال وقت قصير. ومن وجهة نظر محللين سياسيين
أوروبيين، فإن طلب ترامب إنفاق 5% من الناتج المحلي الإجمالي يهدف إلى التسبب في
فشل الدول الأوروبية، لأنه سيكون على حساب قضايا أخرى ذات أولوية قصوى، تتعلق
بتحديث البنية التحتية، وموازنات الخدمات الصحية ومؤسسات الرعاية الاجتماعية
والتعليمية. كل ما يريده ترامب أن يضع البلدان الأوروبية في خانة التقصير، كي يدعي
بالتالي بأن المادة 5 من ميثاق حلف شمال الأطلسي لم تعد تنطبق عليها، والتي تنص
على أنه إذا تعرض أحد أعضاء الحلف لهجوم مسلح، فإن هذا العمل سيعتبر بمثابة هجوم
ضد جميع الأعضاء وعليهم اتخاذ التدابير التي يرونها ضرورية لمساعدة الحليف الذي
تعرض للهجوم.
ومن غير المستبعد أن يحدث تحول ملحوظ في سياسات
ترامب خلال الشهور المقبلة، جراء الشكوك في فرص نجاح خطته لإيجاد تسوية سياسية
للحرب الأوكرانية. غير أنه في كل الأحوال سيكون بانتظار بلدان الاتحاد الأوروبي
أربع سنوات من حكم ترامب، عليها أن تتعامل معه خلالها ببراغماتية عالية، فقرار
بناء قدرات دفاعية أوروبية يحتاج إلى وقت طويل نسبياً. وبشكل عام، أحدثت سياسات
وقرارات ترامب في الأسابيع الماضية صدعاً كبيراً في العلاقات الأميركية- الأوروبية
من الصعب تجاوزه بسهولة، فما وقع كشف ضعف أوروبا، إلى درجة أن ترامب يريد تقرير
مصير الأوروبيين دون أن يكون لهم رأي. وما ينبغي على الأوروبيين تعلمه أنهم قد
يكونون في مرمى النيران الأميركية في أي لحظة إذا بقيت أوروبا منقسمة على نفسها
وتحتاج لحماية الولايات المتحدة.