العدد 1692 /3-12-2025

محمد الباسم

على نحو مستمر تتفجر فضائح الفساد في العراق، ولا يكاد يخلو شهر واحد دون بيان أو توضيح من هيئة النزاهة يكشف عن عمليات فساد مرصودة أو جرى ضبطها، لكن ذاكرة العراقيين المحمّلة بالكثير منها، جعلتهم لا يتفاعلون مع إعلانات كهذه، كونها لم تساهم في وقف الفساد الذي تسبب بنكبات كبيرة على العراقيين، طاولت أرواحهم أخيراً، بسبب فساد عقود وزارة التجارة ومشروعات بناء ومستشفيات وغيرها.

منذ أكثر من اثنين وعشرين عاماً، يغرق العراق في بحر الفساد واستنزاف موارد الدولة التي تعد من أكثر دول العالم الغنية بالنفط والخيرات، لكن أهل البلد لا يزدادون إلا فقراً، والعيش ضمن دوائر الفوضى، وتضيق عليهم الحياة، الأمر الذي يدفع الشباب في العراق إلى التفكير بالهجرة، والبحث عن فرص العمل خارج حدود بلاد الرافدين، فيما تكثر المشكلات الاجتماعية تحت حكم الأحزاب الدينية والطائفية والقومية، ومن دون إصلاحات بنيوية.

شريحة من المليارديرات

في السياق، قال المحلل السياسي القريب من التيار الصدري، مناف الموسوي، إن "معدلات الفساد الهائلة في العراق، هي التي تتسبب عادة في خروج المتظاهرين الرافضين الواقع السياسي والاقتصادي، لأن هذا الفساد خلق شريحة من المليارديرات وشريحة أخرى تحلم براتب لا يتجاوز 200 دولار".

وأوضح الموسوي في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "واحدة من أسباب لجوء بعض الجهات السياسية إلى معارضة النظام السياسي، وانسحاب أطراف أخرى من العمل السياسي ومقاطعة الانتخابات مثل التيار الصدري، سيطرة المال السياسي والفساد على العملية الانتخابية".

ويأتي ذلك، بالرغم من الجهود الحكومية الساعية إلى الحد من عمليات الفساد عبر اتخاذ العديد من الإجراءات. وأكد رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، في تصريحات سابقة أن مكافحة الفساد إحدى أهم أولويات البرنامج الحكومي.

اختفاء مبلغ مالي ضخم

خلال الأيام الماضية، أثارت تصريحات وزير العمل العراقي أحمد الأسدي بشأن اختفاء مبلغ مالي ضخم قدره بنحو مليار ونصف المليار دولار، من صندوق الرعاية الاجتماعية جدلاً واسعاً في البلاد، فيما يُعدّ سيناريو جديداً من قضايا الفساد المالي في بلاد الرافدين، لا سيما أن الوزير تحدث عن الأمر في فترة حرجة، عقب الانتخابات التشريعية التي أُجريت في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وتحول الحكومة الحالية إلى حكومة "تصريف أعمال"، ما يجعل عملية السحب خارج نطاق صلاحياتها.

هذا الحديث، وبالرغم من أن وزارة المالية قد نفته وعبرت عن استغرابها منه، كون المبلغ المذكور لا يزال موجوداً في حسابات الدولة، أعاد الحديث عن عمليات الفساد الكبرى في البلاد.

وتعتبر "سرقة القرن"، المصطلح الذي أشيع بشأن اختلاس حوالي 2.5 مليار دولار (نحو 3.7 تريليونات دينار عراقي) من أموال الأمانات الضريبية التابعة للهيئة العامة للضرائب في وزارة المالية، بين عامي 2021 و2022، عبر 247 شيكاً صُدّرت إلى خمس شركات تابعة لرجل الأعمال الذي تربطه علاقة طيبة ببعض الأحزاب المعروفة في البلاد، نور زهير، واحدة من أبرز قضايا الفساد التي أضيفت، لكنها طُمرت بعد إقرار قانون العفو العام، ولم تحدث أي محاسبة للمتورطين فيها.

فساد الكهرباء والمدارس

كما يُعتبر أبرز ملفات الفساد في البلاد، هو ملف الكهرباء الذي يُقدر بأكثر من 60 مليار دولار مهدورة بين عامي 2003 و2023، وجميعها اختفت دون تحسّن ملموس بالكهرباء، إذ لا تزال عقدة التيار الكهربائي تمثل أكبر التحديات في البلاد.

وتتورط فيها جهات متعددة، منها أحزاب سياسية ووزارة الكهرباء وأخرى تمثلها شركات أجنبية ومحلية، من خلال عقود مضخمة لإنشاء محطات غير مكتملة، والأكثر من ذلك، فإن مسؤولين ونواباً كانوا قد كشفوا بعض التعاقدات الرسمية التي جرت من قبل الدولة العراقية، كانت لصالح شركات وهمية، وكما هي العادة، لم يُحاسب أحد.

وواحدة من أشهر عمليات الفساد التي يذكرها العراقيون، تمثلت بمشروع "الألف مدرسة" التي كان من المفترض أن تشمل 1000 مدرسة في عموم مناطق العراق، بقيمة 1.3 مليار دولار، من خلال وزارة التربية التي تعاقدت مع شركات أجنبية ومحلية، ولم تُنفذ غالبية المدارس، بل إن هذا المشروع تسبب بمشكلات كثيرة، حيث أقدمت الجهات المنفذة للمشروع على هدم مئات المدارس التي لم تكن بحاجة إلا إلى تصليحات بسيطة، الأمر الذي أدى إلى زحام الطلبة على المدارس، وبروز ظاهرة الدوام المدرسي الثلاثي.

فساد تهريب النفط

كما يشهد قطاع النفط فساداً لم ينته منذ 22 عاماً، وتحديداً مسألة تهريب النفط من البصرة وكركوك وبعض الحقول التي تُديرها حكومة إقليم كردستان، شمالي البلاد، إذ يُشير مسؤولون إلى أن تهريب النفط يكلّف الدولة مليارات الدولارات سنوياً، ويجري عبر شبكات التهريب "الصهاريج"، وعن طريق التلاعب بالعدادات الخاصة بمقاييس النفط، وعادة ما تحدث بحماية سياسية، ومن خلال جهات مسلحة لديها امتدادات مع الأحزاب السياسية والشخصيات النافذة، وتتغذى المكاتب الاقتصادية للأحزاب على هذه الأموال.

وواحدة من مهازل الفساد في بلاد الرافدين، ما كشفه رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي نهاية عام 2014، عن وجود نحو 50 ألف جندي وعسكري عراقي "فضائي"، أسماؤهم موجودة لكن لا وجود لهم على أرض الواقع، ويتقاضى ضباط برتب رفيعة وجهات سياسية رواتب هؤلاء، في واحدة من أكبر عمليات الفساد المنظم.

"نافذة البنك المركزي"

كما راحت مليارات الدولارات خلال أكثر من 10 سنوات، من خلال تهريب الدولار عبر ما يُعرف بـ"نافذة البنك المركزي"، حيث يجري شراء الدولار من قبل شركات تحويل مزيفة بفواتير وهمية، ومليارات أخرى اختفت في عقود السدود والمياه، ومليارات أخرى عبر ملف مباني الدولة، والاستيلاء على آلاف العقارات، وشملت مساكن حكومية وقصوراً وأراضي بيعت بأسعار رمزية. وتذهب ملايين الدولارات سنوياً عبر بوابة وزارة الصحة، من خلال عقود أدوية ومستلزمات، وغيرها.

وفي هذا السياق، أكد رئيس مركز التفكير السياسي، إحسان الشمري، أن "الفساد في العراق يفوق التوقعات، وأن المسيطرين على هذا مستمرون في ابتكار الطرق التي يختلسون بها المال من الدولة والعراقيين، وأن حكم الفساد لا يزال يكبر، وأن ما يسمح للفاسدين بالسرقة والاختلاس هو الإفلات من العقاب".

وأوضح الشمري لـ"العربي الجديد"، أن "من الصعوبة استرجاع هذه الأموال المسروقة، لأنها تحولت إلى مشاريع، وبعضها مُنح لمشاريع خارجية بالتالي فإنها اختفت تماماً، وتحوّلت بالمقابل إلى حماية دولية لبعض الأطراف، وهناك شريحة واسعة من السياسيين يتعاملون مع هذه الأموال على أنها استحقاقات انتخابية".

نهب تريليون دولار

تشير التقديرات غير الرسمية إلى أن إجمالي الأموال التي نُهبت جراء عمليات الفساد في العراق منذ 2003 تُقارب التريليون دولار. وفي شهر فبراير/ شباط الماضي، صعد العراق إلى المرتبة الـ140 عالمياً في قائمة الشفافية العالمية، فيما احتل المرتبة الثامنة ضمن قائمة الدول العربية الأكثر فساداً لعام 2024 من أصل 180 مدرجة بالجدول. وذكرت منظمة الشفافية العالمية في تقرير حديث، أن "العراق حصل على المرتبة الـ140 عالمياً بـ26 نقطة متقدماً بثلاث نقاط عن عام 2023، وبالمرتبة الثامنة بين الدول العربية الأكثر فساداً حيث تقدمت عليه دول هي: الصومال، وسورية، والسودان واليمن، وليبيا، وإريتريا، ولبنان كأكثر الدول العربية فساداً".