ارتبط اسم السعودية -في فضاء دول الساحل- بنشر وتصدير الفكر «السلفي الجهادي» إلى المنطقة؛ فقد كانت السعودية الحاضنة الرئيسية للمدرسة السلفية في أفريقيا، خطاباً وتأطيراً وتمويلاً، مما كان له أثر في منافسة الطرق الصوفية التقليدية والدخول معها في معارك عقدية وفقهية، عمقت الهوة بين الصوفية والاتجاه السلفي.
وتعدّدت مظاهر الحضور السعودي في دول منطقة الساحل فشملت الجوانب الدعوية والتعليمية والخيرية والاجتماعية والاقتصادية، وعزز ضعفُ اقتصاديات دول المنطقة التدخلَ السعودي لملء الفراغ الناجم عن إلغاء تدخل الدولة الاقتصادي والاجتماعي، مما شجع حضور العديد من المنظمات والهيئات الخيرية الخليجية -وخاصة السعودية- في المنطقة.
وفي هذا الإطار؛ يُحسب للرياض تمويل الكثير من المشاريع التنموية وتشييد العديد من البني التحتية في دول المنطقة، ومنها منشآت إسلامية كبيرة، كمسجد الملك فيصل بمدينة نجامينا الذي بلغ تمويله حوالي 16 مليون دولار أميركي، ومسجد الملك فيصل في باماكو الذي بلغت تكلفته نحو سبعة ملايين دولار.
ثم توسع النشاط السعودي بمنطقة الساحل -وأفريقيا عموماً- من المجال الديني إلى اهتمام دبلوماسي وإستراتيجي، بعد تنامي حركة التشيّع في أفريقيا، والحضور القوي لإيران كفاعل دولي جديد على الساحة الأفريقية.
ففي سنة 2009؛ أصدر معهد كارنيجي تقريراً تحدث عن وجود علاقات وثيقة بين السعودية والجماعات المتطرفة في منطقة الساحل، واعتبر التقرير أن الكثير من الخلايا النشطة في الساحل تأسست في السعودية.
لكن صحفاً وتقارير إعلامية فرنسية ذهبت أبعد من ذلك، فحمّلت الرياض عام 2013 مسؤولية تنامي أنشطة الجماعات المتطرفة التي كانت تحتل شمال مالي، واستندت ذات المصادر إلى العلاقة الوثيقة التي تربط زعيم جماعة أنصار الدين إياد آغ غالي بالسعودية.
حسابات متعددة
حسابات الرياض تهدف لتحقيق كسب في أكثر من ورقة، بعد خسارة الرياض للعديد من الرهانات واستخلاصها عِبَرَ بعض الحسابات الخاطئة لديها في أزمة حصار قطر.
ولعل من أبرز الدوافع السعودية -التي تقف خلف تمويلها القوة الأفريقية المشتركة لدول الساحل- البحث عن موطئ قدم في منطقة صراع تقع على تماس مع دول الفضاء المغاربي، التي تراجَع فيها الدور السعودي بعد رفض أغلبها الاصطفاف خلف الرياض في قضية حصار قطر.
فمواقف الدول الرئيسية في المغرب العربي (المغرب والجزائر وتونس) من الأزمة الخليجية، المتمثلة في التزامها بالموفق الحيادي من الأزمة الخليجية رغم ضغوط السعودية على هذه البلدان؛ جعلت الرياض تبحث عن بدائل يمكن الرهان عليها في مساعي البحث عن الاصطفاف مع مواقفها المترنحة.
ورغم أن مواقف الجزائر وتونس والمغرب كانت صادمة للسعودية؛ فإن الموقف المغربي تحديداً قد يكون أكثر صدمة لها، فالرباط تعتبر أهم حليف استراتيجي للرياض في منطقة المغرب العربي، وكانتا تنسقان معا جُلّ السياسات الخارجية المتعلقة بالقضايا الأفريقية.
قد تكون مواقف نظاميْ موريتانيا وتشاد (أهم قوتين عسكريتين في مجموعة الساحل) اللذين تماهياً سريعاً مع الموقف السعودي بإعلانهما قطع العلاقات مع الدوحة- أغرت الرياض بالتفكير في البحث عن حلفاء جدد بمنطقة الساحل، يعوّضون حلفاءها التقليديين في الفضاء المغاربي اللصيق جغرافياً بمنطقة الساحل.
الورقة الثانية التي تقف خلف الاهتمام السعودي بمنطقة الساحل قد تكون السعي لكسب ودّ الأوروبيين، إذ لم تكن الحكومات الأوروبية معجبة بمواقف دول الحصار، كما أنها لم تُبدِ قناعة بالحجج التي قدمتها هذه الدول، ولذا سرعان ما فشل رهان الرياض وأبو ظبي على المواقف الأوروبية لاستمالتها في الأزمة.
الأهم في موقف الرياض وأبو ظبي حالياً هو رفع الالتباس عن مواقفهما المبهمة من الأزمة في الساحل، بعد إعلان وزراء فرنسيين -إبّان التدخل العسكري الفرنسي في مالي بداية 2013- تعهد الرياض وأبو ظبي بتمويل العمليات العسكرية الفرنسية في مالي.
كما يترجم هذا الدعم وجود أجندة سعودية/إماراتية في المنطقة بدأ الحديث عن ملامحها قبل سنة، إثر تعهد الإمارات بتمويل بناء مدرسة عسكرية لتدريب جيوش مجموعة الساحل يقع مقرها في موريتانيا.
خطأ استراتيجي
كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو من أقنع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بضرورة دعم الرياض لقوة الساحل العسكرية، ففرنسا تواجه مشاكل اقتصادية أدت بها لتقليص موازنة الإنفاق على الجيش، ولذا فإنها تخطط لسحب قواتها من مالي والاستعاضة عنها بقوة أفريقية تؤدي نفس الأدوار التي كانت تقوم بها القوات الفرنسية.
لا تريد فرنسا الاستمرار في المستنقع الأمني والعسكري في مالي، لكنها -في المقابل- متوجسة من حدوث فراغ أمني قد يقود إلى عودة الجماعات المتطرفة، التي كانت تسيطر على مناطق واسعة من الشمال المالي.
هناك سعي فرنسي حثيث للزج بدول الساحل الخمس في الحرب وكالةً عن فرنسا بالساحل حفظاً للنفوذ الفرنسي، ولذا فإن السعودية قد لا تكون أدركت أنها تموّل حرباً فرنسية تقودها جيوش أفريقية بالوكالة، وهي تدفع مع الإمارات مبلغاً يمثل نصف فاتورة التكاليف السنوية لهذه القوة، التي قدّرها الرئيس ماكرون بنحو 260 مليون يورو.
لكن الرياض ترتكب -من الناحية الجيوستراتجية- خطأ كبيراً بتمويلها القوة الأفريقية للساحل؛ فمجموعة الخمس هذه تنظر إليها حكومات ونخب أفريقية بعين الريبة، باعتبارها إطاراً صنعته فرنسا لتعظيم نفوذها بالساحل، ولتقويض أو تحييد جهود المنظمات والدول التي تتحفظ على الوجود الفرنسي، كبعض أعضاء منظمة التنمية الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإكواس) والجزائر.
وبمنطق الربح والخسارة؛ فإن السعودية ستخسر -بهذه المقاربة الجديدة- نقاطاً صلبة كانت تعتمد عليها في أفريقيا، عبر أجندتها الجديدة التي تقوم على إنهاء علاقتها بالجماعات الإسلامية المرتبطة بها على الساحة الأفريقية، ووقف مشاريع العمل الخيري التي جعلت سابقاً الكثير من الأفارقة المسلمين ينظرون إلى الرياض كراعية لمصالحهم وخادمة للإسلام في أفريقيا.}