محمد بشير سليمان
تناقلت وكالات الأنباء ووسائل الإعلام المحلية والعالمية نبأ الاجتماع الذي عقده رؤساء هيئات أركان جيوش السودان وقطر وتركيا بالخرطوم يوم 25 كانون الأول 2017، متناولة هذا الحدث بالتحليل المفصل بحثاً عن أبعاده ومراميه؛ فتعدّدت الرؤى التحليلية والتأويلات متفقة ومختلفة، خاصة أن أطراف الاجتماع لم توضح أهدافه ولو بالقدر اليسير.
كما أن الاجتماع جاء -في وقته ومكانه- مرتبطاً بوقائع الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية التي تعج بها منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً الدول العربية وما تشهده من حالة تقاطع وصراع سياسي وأمني تغطي سماءها، بلغت فيها الحرب الإعلامية وشدة التصريحات أوْجَها، متجاوزة القيم والمبادئ الإسلامية حتى كادت تدفع بالمنطقة للقتال الحقيقي، ليصبح الأمن القومي لهذه الدول -بل والأمن القومي العربي- في أخطر حالات تهديده.
أهداف تتجاوز التدريب
ولذا فإن هذا الاجتماع -رغم ما ذُكر من أنه جاء في إطار الأبعاد التدريبية تعاوناً عسكرياً- وظرفه المتعلق بواقع المنطقة المتأزم؛ فرض على السياسيين والإعلاميين البحث عن أسباب أخرى غير ما ذُكر، خاصة أنه ضم دولاً ذات توافق في رؤى سياسية ومفاهيم أيديولوجية، تتعارض مع نظائرها لدى أطراف عربية أخرى.
ويستدعي إكمالُ الإعداد والاستعداد لتحقيق هذا الأمن البحثَ المشتركَ عن شركاء في البيئة الإقليمية والدولية لهذه الدول الثلاث، بالتحالف أو عبر اتفاقيات دفاعية مما يزيد قدرات الدفاع عنها، الذي لا شك أنه سيكون في أقوى حالاته إن أصبح مسنوداً بتوافق سياسي بين هذه الدول.
إن تحليل المشهد السياسي الكلي لمنطقة الشرق الأوسط ومساره بالتركيز على ما يجمع السودان وقطر وتركيا، مع اعتبار واقع البيئة السياسية الدولية وخاصة استراتيجيات الدول الكبرى؛ يُبرز الكثير من المهددات التي تكشف مجموعة من الدلالات هي التي دفعت أو قد تدفع لانعقاد مثل هذا الاجتماع، الذي يبحث الخيارات الأنسب للتخطيط للدفاع عن الأمن القومي للدول الثلاث، تأميناً لمتطلباته إعداداً وتنسيقاً.
لقد ارتبط الاجتماع -حسب ما أعلِن- بهدف التعاون في التدريب العسكري لقوات هذه الدول، إلا أنه من البديهيات العسكرية أن التدريب يمثل أعلى درجات الإعداد والاستعداد للحرب، لأن أي جيش يكون عادة في إحدى حالتين لا ثالثة لهما: إما حالة التدريب أو وضعية القتال.
وبذلك يكون اجتماع رؤساء هيئات أركان هذه الدول قد أوضح أهدافه، المتمثلة في التهيؤ والاستعداد المشترك والمبكر لمواجهة كل الاحتمالات التي قد تفرزها الحالة السياسية والأمنية المضطربة في الشرق الأوسط، وبين دول مجلس التعاون الخليجي -على وجه الخصوص- التي تشهد حالتها تشابكاً مع تأثيرات الدول الكبرى وغيرها ووفقاً لإستراتيجياتها.
تداعيات أزمة الخليج
ولذا فإن اجتماع قادة جيوش الدول الثلاث يتجاوز حالات الحرب والصراع الذي يدور بكافة أشكاله في الشرق الأوسط، لينصبّ تركيزه على ما جرى ويجري في منطقة الخليج تأسيساً على الأحداث التي صاحبت وأعقبت انعقاد قمم الرياض الثلاث، التي حضرها الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال 20-21 أيار 2017، وجاءت مخرجاتها الرئيسية مركزة على مكافحة الإرهاب والإسلام الحركي وتحجيم دور إيران في المنطقة.
فعلى إثر ذلك وفي 5 حزيران 2017؛ اندلعت الأزمة الخليجية بإعلان السعودية والإمارات والبحرين ومصر قراراتها المفاجئة بفرض الحصار على دولة قطر، ولذات الأسباب التي خلصت إليها قمم الرياض آنفة الذكر، لتحدث بهذا انتكاسة كبيرة في منظومة الأمن القومي الخليجي والعربي.
ورغم هول المفاجأة وشدة الصدمة التي أحدثها قرار الحصار على المستوى الخليجي والعربي، وكان أقوى آثارها على قطر؛ فإن الدوحة استطاعت أن تدير الأزمة بهدوء تمكنت به من احتواء تأثيراتها الآنية، ولكنها أدركت حجم التحديات التي باتت تهدد أمنها القومي، وفي مقدمتها ضعف القوة العسكرية باعتبارها العاملَ الحاسم في أي صراع مسلح قد يتبع هذا الحصار.
فكان أن استغلت قطر علاقاتها الإقليمية والدولية المميزة تأهباً لأي تداعيات قد تحدث بقرار عاجل تتخذه دول الحصار، وكانت تركيا أول من دفع بقواتها -تنفيذاً للاتفاقية الأمنية المتفق عليها سابقاً بين الدولتين- للتمركز في قطر، ثم تبع ذلك تنفيذُ أول مناورة عسكرية مشتركة بين جيشيْ الدولتين يوم 16 تموز 2017. ولعل تركيا حققت بذلك التمركز العسكري بُعداً آخر يتمثل في وجودها بمياه الخليج الذي كانت تريده خدمة لاستراتيجيتها.
وفي كل الأحوال، فإن قطر تحتاج -مع استمرار حالة الحصار أو بدونها- إلى مزيد من الترتيبات والإجراءات الأمنية، لحماية أمنها القومي في ظل أوضاع متغيرة.
أما السودان -الذي استضاف الاجتماع الثلاثي- فيمكن القول إن مهددات أمنه القومي تكاد تغطي كافة مساحته بحجمها الكبير، بل وتتجاوز حدوده إلى البيئة الاقليمية جواراً والبيئة الدولية تمدداً. وذلك ما يوضحه طلب رئيسه عمر البشير من نظيره الروسي فلاديمير بوتين إنشاء قاعدة بحرية في ميناء بورتسودان، مؤكداً أن السودان مهدد بخطر التقسيم والتجزئة بواسطة أميركا التي كانت السبب الرئيسي في فصل جنوب السودان.
حيوية البحر الأحمر
هذا مع التقاطع الحاد بين سياسة الخرطوم ومواقف بعض دول الجوار وعلى رأسها مصر، التي تحتل حلايب وشلاتين، وتعارض إنشاء سد النهضة الإثيوبي، ما دفعها إلى أن تقوي وجودها في البحر الأحمر بالتقارب مع إريتريا لإنشاء قواعد عسكرية داخلها، تهديداً لإثيوبيا والسودان الذي يمكنها أن تحاصره بحرياً بإغلاق ميناء بورتسودان منفذه البحري الوحيد إلى الخارج.
ولذا كان لا بدّ من أن يبحث السودان عن تحالفات أو اتفاقيات أمنية يتجاوز بها بعض تحدّيات أمنه القومي، ولعل هذا -مع عاملي السياسة والأيديولوجيا- هو ما دفعه إلى التقارب العسكري الشديد مع قطر وتركيا، إضافة إلى التكامل معهما في البعد الاقتصادي، باعتبار أن السودان غنيّ بالموارد الطبيعية التي لم تستغلّ بعدُ.
أما تركيا فتقوم إستراتجيتها تجاه دولتيْ قطر والسودان على التعاون الشامل على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية، وخاصة في مجال الاستثمار الذي لا ينفصل عن البعد الأمني، ولعل استثمارات قطر تحتل المرتبة الثانية في تركيا.
وذات المفهوم يتم مع السودان، وهو ما تؤكده زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للخرطوم يوم 24 كانون الأول 2017، وما أبرمه فيها من اتفاقيات للتعاون العسكري تمثلت قمته في منح تركيا إدارة جزيرة سواكن السودانية، التي ستكون قاعدة لصيانة السفن المدنية والحربية.
هذا بالإضافة إلى 12 اتفاقية في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار، مع ما يمثله السودان من أهمية استراتيجية كمدخل للقارة الأفريقية، التي تكتسب اهتماماً كبيراً في الاستراتيجية التركية ومنظور أنقرة لحماية أمنها القومي. وبذلك يكون اجتماع رؤساء هيئات أركان هذه الدول استجابة لمقتضيات الأمن القومي لهذه البلدان ومتطلبات تحقيقه والمحافظة عليه. كذلك لا يمكن تجاهل الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر وموقع السودان المتميز على سواحله الغربية، فالبحر الأحمر -الذي تعبره نسبة 60% من التجارة العالمية- يسيطر على أهم مناطق إنتاج الطاقة وتدفقها. وسيظل يمثل الشريان الذي يربط بين الغرب والشرق عبر مضيق باب المندب وقناة السويس، كما كان وسيبقى ساحة للتنافس الدولي والإقليمي الحادّين، وهو -لمركزيته بالشرق الأوسط- مقبل على أن يكون المنطقة الأخطر والأكثر احتشاداً بالقواعد العسكرية والأساطيل البحرية، فلأميركا وإسرائيل وجود مؤثر فيه، وكذلك روسيا والصين وإيران وأوروبا.
لذلك، ومع الحصار الذي تفرضه الدول الأربع على قطر، وتداعيات الحرب في اليمن؛ تزداد أهمية البحر الأحمر للدول الثلاث (قطر والسودان وتركيا) التي تولي جميعاً -عبر استراتجياتها السياسية والاقتصادية- اهتماماً متزايداً بالقارة الأفريقية.مع استحضار أن هذه الدول تتلاقى وتتقارب في مبادئها وأفكارها بشأن الإسلام الحركي، وهو ما يقارب مفاهيمها للأمن القومي، وما يقتضيه ذلك من عمل مشترك دؤوب ومساير في سرعته لتطور الأحداث الإقليمية سياسياً واقتصادياً.}