العدد 1669 /25-6-2025

أحمد كامل

كانت ساعةُ الفجر في بغداد يوم 17 يناير/كانون الثاني 1991 أشبه بدقّةِ ناقوسٍ لا يعلن بداية يومٍ جديد، بل نهاية عصر ماض، أو هكذا ظن الأمريكيون. استيقظت المدينة على وميضٍ متواصلٍ في السماء تُقطّعه أصواتُ صواريخ "توماهوك" وهي تشقُّ السماء فوق نهر دجلة كسهامٍ مضيئة، قبل أن تنفجر في أهدافها تحت سحابةٍ من الدخان الفوسفوري الذي عانى منه العراقيون لعقود لاحقة.

على أسطح المنازل كان الناس يحدّقون مشدوهين إلى أشباح الطائرات الأميركية وهي تُنزل حمولةً لا تنتهي من القنابل "الذكية"، فيما يؤكد ممثلو النظام العراقي أن العدوّ سيندحر عن أسوار بغداد.

كان المخطِّطون في البنتاغون يعتقدون أنَّ هذه "الجريمة" من الجو، والتي ستستمر 43 يومًا متواصلة وتُدمِّر شبكات الكهرباء والجسور ومقارَّ حزب البعث الحاكم ستُحدث شرخًا يخلع صدام حسين من كرسيّه أو يدفع ضباطه إلى الانقلاب عليه.

بيد أن رهان القصف لإسقاط النظام فشل تمامًا. فبعد أن خمد أزيز الطائرات وأُعلن وقفُ إطلاق النار، خرج صدام من ملجأه المحصَّن ليتجوَّل في الأزقة المتربة، سيجارته بين أصابعه وابتسامةُ التحدّي على وجهه، ولسان حاله يقول أنّ السلطة لا تُنتزع من الجوّ. ظلّت صورته مُعلَّقةً على المباني المنهارة، وظل نظامه قادرًا على حكم العراق لاثني عشر عامًا أخرى.

تبدو الحالة العراقية متشابهة مع ما يتمناه الإسرائيليون بشأن إيران. فمع انطلاق الحملة الجوية الإسرائيلية ضد إيران فجر الجمعة 13 يونيو/حزيران الحالي، أكدت الحكومة الإسرائيلية رسميًّا أن العملية تهدف إلى "كبح القدرات الإيرانية ومنع تهديدات مباشرة لإسرائيل"، مشيرة صراحة إلى برنامج إيران النووي، وزاعمة أن إيران كانت تقف على بعد "أمتار قليلة" من صناعة قنبلة نووية.

لكن دلالات ميدانية ورمزية أثارت تساؤلات جدية حول النية الحقيقية وراء التصعيد الإسرائيلي التي من الواضح أنها تتجاوز القضية النووية.

فطبيعة الأهداف التي شملت اغتيالات واسعة لمسؤولين إيرانيين، واتساع نطاق الهجمات ليشمل منشآت عسكرية لا علاقة لها بالبرنامج النووي فضلا عن منشآت إدارية ومدنية يعزز الانطباع بوجود أهداف أوسع للعملية، وهو ما يفيده أيضا اسم "الأسد الصاعد" الذي أطلقته إسرائيل على عمليتها، وهو اسم لا يستبطن أبعادا توراتية فقط، بل يستحضر أيضا علَم دولة إيران قبل الثورة الإسلامية الذي يتوسطه أسد يرمز للقوة، وكأنها دعوة ضمنية إلى استعادة ماضي إيران غير البعيد.

وقد قطع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو نفسه الشك باليقين حين وجه دعوة إلى الشعب الإيراني للثورة ضد حكومته، ولوّح باغتيال المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، مما يعني أن الضربة الإسرائيلية صُمّمت منذ البداية لتقويض النظام الإيراني ولو جزئيا.

 

وقد فسر العديد من المحللين في إسرائيل وخارجها استهداف حكومة نتنياهو مراكز القيادة والسيطرة الإيرانية بأنه يهدف إلى "زعزعة الوضع الداخلي" على أمل أن يتسبب ذلك في انهيار النظام ذاتيا أو تسهيل انقلاب عليه من داخل هرم السلطة. وهي إستراتيجية تُراهن، كما في تجارب تاريخية عديدة، على فعالية الإكراه الجوي في تحقيق مكاسب سياسية كبرى دون الحاجة إلى اجتياح بري أو الدخول في مواجهة شاملة.

فهل يكفي الضغط من الجو لإجبار النظام الإيراني على التراجع أو السقوط؟ وهل تعي إسرائيل دروس التاريخ، حين تعلّق هذا القدر من الطموح على أجنحة الطائرات؟

ثلاثة أوجه للقصف

في كتابه "القصف من أجل الفوز: القوة الجوية والإكراه في الحرب"، والذي نُشر قبل قرابة عشرين سنة، ولم يُلتفت إليه باللغة العربية، يفكك أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو الأميركية روبرت بيب (Robert Pape)، التصور السائد بشأن قدرة القصف الجوي وحده على إسقاط النظم المعادية أو حتى إكراه العدو على تغيير سلوكه السياسي، وهو التصور الذي ترسخ في وعي القوى الكبرى منذ الحرب العالمية الثانية.

ويفصل بيب في تحليله بين ثلاث إستراتيجيات رئيسية لاستخدام القوة الجوية، لكل منها منطقها وأهدافها، لكن فاعليتها تختلف باختلاف طبيعة الصراع. الأولى هي إستراتيجية العقاب (Punishment)، وفيها يستهدف القصف البنية التحتية المدنية والأفراد المدنيين بغرض رفع تكلفة الحرب على المجتمع، وإيلامه لدرجة تدفعه إلى الضغط على القيادة السياسية للتراجع أو الاستسلام. أي أن القوة المعتدية تراهن في هذا الحالة على إرهاق خصمها اجتماعيا وتحويل السخط الشعبي إلى أداة ضغط داخلي على صانع القرار.

ويُفرّق بيب -داخل إستراتيجية العقاب- بين نمطين: الأول هو "العقاب الأقصى"، الذي يستهدف تدميرا شاملا ومباشرا للمناطق السكنية والتجارية، باستخدام ذخائر حارقة وهجمات ليلية مكثفة لإحداث صدمة سريعة. أما الثاني، فهو عقاب تدريجي أو "حملة مخاطر"، يتم تصعيد القصف خلالها تدريجيًّا من أهداف مدنية أقل أهمية نحو أهداف أشد إيلامًا، مع فترات توقّف لإتاحة فرص دبلوماسية.

أما الإستراتيجية الثانية فهي إستراتيجية الحرمان (Denial)، وتركز على استهداف القدرات العسكرية واللوجستية للعدو، بهدف منعه من استغلال هذه القدرات لتحقيق مكاسب ميدانية أو متابعة عملياته القتالية. وبعبارة أخرى، تسعى هذه الإستراتيجية إلى إفقاد العدو القدرة "المادية" على تحقيق النصر وتقويض إستراتيجيته القتالية، وهو ما يضعف بالتبعية الإرادة اللازمة لمواصلة القتال.

وأخيرا تأتي الإستراتيجية الثالثة وهي قطع الرأس (Decapitation)، وتقوم على توجيه ضربات دقيقة ومركّزة إلى مراكز القيادة والسيطرة، أو اغتيال القادة السياسيين والعسكريين، بهدف إرباك منظومة الحكم أو تعطيل سلسلة القيادة والاتصال، بما يؤدي إلى شلل في اتخاذ القرار أو انهيار مبكر للبنية القيادية.

 

وفي الحالة الإيرانية، تُظهر الضربات الجوية الإسرائيلية ميلًا إلى المزج بين إستراتيجيات العقاب والحرمان وقطع الرأس، دون التزام واضح بإحداها. وعلى عكس ما قد يبدو ظاهريا من أن ذلك يمنح الحملة الجوية شمولية ويجعلها أقدر على تحقيق أهدافها، فإن ما يفعله هذا "التشتت" واقعيا هو إضعاف جدوى "الإكراه الجوي"، والأهم أنه يكشف عن عدم وجود إستراتيجية متماسكة للحملة الجوية من الأصل.

ولا تختلف الضربات الإسرائيلية عن الضربات الأميركية من حيث التأثير وان اختلفت من حيث الشدة. فقد أظهر القصف الأميركي الذي استهدف منشآت فوردو ونطنز وإصفهان النووية، المدى الذي تستطيع القوة الجوية الأميركية أن تبلغه.

الإكراه لا الإخضاع

يبني روبرت بيب نظريته حول استخدام القوة الجوية على مبدأ بسيط لكنه حاسم، فالمسألة لا تتعلق فقط بامتلاك القدرة على توجيه الضربات، بل بكيفية توظيف هذه القدرة بما يؤدي إلى تغيير سلوك العدو. فالقصف في حد ذاته لا يضمن النجاح، إن لم يُستخدم ضمن تصور إستراتيجي يُراعي طبيعة الخصم وأهدافه، وسقف ما يمكن تحقيقه واقعيا.

في هذا الإطار، يُميّز بيب بين مفهومين جوهريين في استخدام القوة، هما: الإكراه (Coercion) والإخضاع عبر القوة الغاشمة (Brute Force). ويشير الإكراه إلى استخدام القوة بهدف التأثير في سلوك الخصم دون تدميره، من خلال تعديل حساباته حول التكلفة والفائدة، أي عبر دفعه إلى إعادة النظر في أفعاله برفع تكلفة استمراره في إتيان سلوك ما أو تقليل جدوى ما يقوم به، دون حاجة إلى تجريده من قدراته كليًّا.

في حالة الإكراه، يظل الخصم إذن قادرا على القتال أو المقاومة، لكنه يختار التراجع لأن تكلفة القتال أصبحت أكبر من العائد. أما الإخضاع، فيعني ببساطة تحطيم العدو تمامًا حتى يفقد قدرته على المقاومة، مثلما يحدث عند اجتياح بلد وإنهاء جيشه ونظامه كليًّا.

وفق ذلك السيناريو لا يُعد ما يحدث في تلك الحالة إكراهًا بالمعنى الحقيقي، لأن المنتصر دفع بالفعل تكلفة الحرب كاملة من أجل الوصول إلى هذه النتيجة. فإذا لم تتحقق التنازلات إلا بعد سحق العدو تمامًا، فذلك لا يُسمى إكراهًا، بل إخضاعًا بالقوة.

وفي هذا السياق ينتقد بيب ما تروّج له بعض مدارس القوة الجوية الحديثة، التي تعوّل على دقة القصف والتكنولوجيا المتقدمة كأدوات قادرة على حسم المعارك من الجو وحده، إذ يؤكد أن النجاح في الإكراه العسكري لا يُقاس بمدى القدرة على الضرب فحسب، بل بمدى فهمك لأهداف العدو، وسُبل منعه من تحقيقها بأقل تكلفة ممكنة.

المطرقة وحدها لا تكفي

يستحضر بيب أمثلة عدة تدلل على وجهة نظره، ففي حرب فيتنام، شنت الولايات المتحدة حملتين جويتين رئيسيتين ضد الشمال، بهدف إجباره على وقف تسلل المقاتلين والإمدادات إلى الجنوب وإجبار هانوي على التفاوض على تسوية سلمية.

سُمِّيت الحملة الأولى "الرعد المتدحرج" (Rolling Thunder) وكانت في عهد الرئيس جونسون. وركّزت خلالها الولايات المتحدة على التصعيد التدريجي للضربات الجوية، بما يشمل استهداف البنية الصناعية وأحيانًا منشآت مدنية.

تنقّلت هذه الحملة بين ثلاث إستراتيجيات دون التزام واضح بإحداها، هي: العقاب من خلال ضرب أهداف مدنية، والحرمان عبر استهداف البنية العسكرية واللوجستية، والتصعيد الرمزي لإيصال رسائل ضغط سياسي.

غير أن الحملة فشلت في تحقيق أهدافها، إذ كانت فيتنام الشمالية ترى في دعم الجنوب قضية وطنية لا يمكن التنازل عنها، كما أظهرت قدرة لافتة على التكيف مع القصف بفضل بساطة بنيتها التحتية وتدفق الدعم العسكري والاقتصادي من الصين والاتحاد السوفياتي.

والدرس الأساسي المستفاد من فيتنام، كما يراه بيب، هو أن القصف الجوي وحده، حتى وإن كان مكثفًا، لا يكفي لتغيير القرار السياسي للخصم، ما لم يُدمج ضمن إستراتيجية متعددة الأبعاد تُضعف قدرة العدو على القتال وتعرضه لخسائر حقيقية في ميدان المعركة.

والخلاصة، كما يطرحها الكتاب، أن القصف الجوي، مهما بلغ من دقة أو كثافة، لن يُنتج أثرًا حاسمًا، وسيتحول إلى مجرد استعراض للقوة دون تأثير فعلي، ما لم يُدرَج ضمن إستراتيجية أوسع تشمل ضغطًا بريًّا ودعمًا دبلوماسيًّا متزامنَين.

وفي حالة إسرائيل، فإن حملتها الجوية على إيران ربما تظل عاجزة عن إحداث تغيير جذري في توجهات النظام الإيراني (فضلا عن إسقاطه)، دون عناصر ضغط إضافية. فالقصف وحده قد يؤخّر طهران عن أهدافها، لكنه غالبًا لن يردعها، فضلًا عن أن إسقاط نظام عبر الجو وحده لم يتحقق تاريخيًّا، دون عوامل مساعدة حاسمة يبدو أنها لا تتوفر في الحالة الإيرانية.