العدد 1669 /25-6-2025
بيروت حمود
77
عاماً إلى الوراء. ربيع إبريل/نيسان 1948 يأفل شيئاً فشيئاً في قرية وادي حنين،
والنباتات العشبية الخضراء ومعها أشجارُ الحمضيات المنعشة تذبل وهي تودّع موسمها
قبل الموعد المنتظر للقطاف بكثير، مثل أهلها من الفلسطينيين وأقرانهم على طول
القرى والمدن في الجانب الغربي من الطريق الساحلي الممتد بين الرملة، يافا وغزة.
فلاحو
وادي حنين وناسها الأثرياء أيضاً من مجتمع الأفندية لن يهنؤوا مذ ذاك بموسم
القطاف. ففي نهاية الشهر ذاته، عصابات "الهاغاناه" الصهيونية ستشن
هجوماً على قرى في محيطهم وأهمها صرفند الخراب. وهناك على بعد نحو تسعة كيلومترات
غربيّ مدينة الرملة، ستضطر العائلات الفلسطينية التي كان من بينها أكبر تجار
فلسطين إلى ترك بيوتها بسبب جرائم العصابات الصهيونية، ومغادرة القرية، التي تقول
الروايات إن اسمها "وادي حنين" جاء مع قبيلة قضاعة اليمنية التي
استوطنتها بداية العصور الإسلامية، مقبلةً من حضرموت في اليمن.
كانت
الهجرات الصهيونية الأولى إلى فلسطين قد جذبتها المنطقة الساحلية عموماً، وغرب
وادي حنين خصوصاً؛ حيث ازدهرت المنطقة هناك وراحت تجذب عمّالاً من نواحي فلسطين
بسبب زراعة الحمضيات التي كانت تصدرها عبر ميناء يافا القريب؛ أمّا المهاجرون
اليهود، فقد قضموا أراضي من القرية وأسسوا عليها مستعمرة "نس تسيونا"
(معجزة صهيونية). وبعد تهجير وادي حنين، توسّعت المستعمرة ودمجت معها مستعمرة
"كفار أهرون" التي شُيّدت عقب النكبة.
إثر
تهجير القرية، هدّمت العصابات الصهيونية مئذنة مسجدها وأحالته إلى كنيس
"غؤلات يسرائيل" (خلاص إسرائيل)؛ فيما استولى القادمون الغرباء على عشرة
منازل لأثرياء القرية وأفندياتها؛ أهمها منزل الشيخ سليمان الفاروقي الذي تستوطنه
عائلة يهودية الآن، فيما صار منزل ابن حامد بسقفه المزوّى كالجلمون مستشفى للأمراض
العقلية. وحده قصر أبو عمر الأفندي الشهير سيغدو غامض المصير قبل أن يتكشف بعد
حين؛ حيث سيطر عليه سلاح العلوم بجيش الاحتلال وحوّله إلى مكان تجري في أروقته
أنشطة مبهمة، حاظراً على أيٍّ كان الاقتراب منه وتصوير ما يدور فيه.
هكذا
إذاً، تحت اسم "نس تسيونا" ذاته، وفي قصر الأفنديّ المستولى عليه أنشأت
إسرائيل أهم معهد سري للأبحاث البيولوجية، ومن هناك انطلقت لإنتاج أسلحة بيولوجية
وغازات سامّة استخدمتها في اغتيال قادة انخرطوا في العمل المقاوم ضد الاحتلال.
فعلى الرغم من الغموض الذي يشوب نهاية القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين،
وديع حداد (28 مارس/آذار 1978)، والذي يُشاع أن مرضاً مجهولاً شل جهازه المناعي،
يقر مرجعان إسرائيليان، على الأقل، بوضوح أن اغتيال حداد كان بواسطة سُم لا تظهر
أعراضه على الجسد مباشرة، طُوّر في مختبرات معهد "نس تسيونا".
مرجعٌ
أوّل في هذا السياق هو كتاب "حسابٍ مفتوح"، الذي يشير كاتبه الإسرائيلي
أهارون كلاين، إلى أن "الموساد" اغتال حداد بسُم طوّره خبراء المعهد،
ودُسّ في أحد أنواع الشوكولاتة البلجيكية التي كانت محببة على بطن
"الهدف"؛ حيث أرسلها إليه بواسطة عميل عراقي يعمل لصالح الجهاز. أمّا
المرجع الآخر فهو كتاب "انهض وأقتل أولاً" (2018)، والذي يشير كاتبه
رونين بيرغمان، المقرّب جداً من مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي إلى أن عميلاً
لـ"الموساد" استبدل معجون الأسنان في بيت حداد بآخر فيه سُم من إنتاج
المعهد البيولوجي. وبين اختلاف المرجعين، يبقى ثابتاً أن السُّم طوّره العلماء
القتلة في المعهد، أولئك الذين يضعون أقنعة ونظارات وقائية، ويلبسون كزيّ الأطباء،
متنقلين بين المختبرات في قصر الأفندي.
لزمن
طويل عملياً، أحاطت إسرائيل القصر الذي سرقته من صاحبه الأفندي الفلسطيني شكري
التاجي (المعروف بأبو عمر الأفندي) وهجّرت عائلته إلى غزة، بكثير من السريّة.
وحدها المصادفات ربما استطاعت إماطة اللثام عن الأنشطة الخبيثة التي تدور وراء
أعمدة العمارة الهندسية المثيرة للإعجاب.
في
كتابيه "إسرائيل والقنبلة" و"التابو الأخير"، يذكر الباحث
الإسرائيلي، أفنير كوهين، أنه في مارس/آذار 1948، أرسل رئيس الوزراء في حينه،
ديفيد بن غوريون، إلى أهود أفريئيل، الذي كان مسؤولاً عن جلب السلاح من أوروبا،
رسالةً طالبهُ فيها بـ"العثور على علماء يهود من شرق أوروبا في مقدورهم إماتة
عدد كبير من الناس، أو على النقيض شفاء عدد كبير منهم والحؤول دون مقتلهم".
وكان هذا عملياً أوّل دليل على أن بن غوريون فكر في استخدام السلاحين البيولوجي
والكيميائي ضد الفلسطينيين والعرب، أو وقاية الإسرائيليين من أسلحة اعدائهم.
بالتوازي
مع جلب العلماء اليهود من أوروبا، عمل أيضاً ألكس كنين الذي كان أستاذاً متخصصاً
في الميكروبيولوجيا في الجامعة العبرية في القدس، على جمع عدد من الكيميائيين
والبيولوجيين في وحدة بحث اختصّت بالسلاح البيولوجي. وقد انتقلت الوحدة من القدس
إلى يافا ثم إلى أبو كبير في 18 فبراير/ شباط 1948. وكان "الهدف من أنشطتها
إنتاج سلاح كيميائي وبيولوجي، وتطوير أمراض وجراثيم وأوبئة، لاستخدامها في ميدان
الحرب والوقاية منها". وهذه الحقيقة أخفيت "بساتر من الأنشطة المدنية،
مثل تطوير لقاحات وأدوية"، فيما كوهين نفسه كان من مؤسسي المعهد البيولوجي في
"نس تسيونا"، والذي ترأسه أيضاً.
بعدها،
كرّت سبحة "المصادفات" بشأن أنشطة المعهد الغامض. ففي عام 1992 تحطمت
طائرة شحن من طراز بوينغ 747 تابعة لشركة "العال" الإسرائيلية فوق
مبنيين سكنيين في إحدى ضواحي أمستردام في هولندا، ما سبّب مقتل ما لا يقل عن 43 شخصاً.
الطائرة التي زُعم يومها أنها كانت تحمل فاكهة وعطوراً ومعدات حوسبة، بيّنت
تحقيقات صحافية بعد ست سنوات أنها حملت 190 ليتراً من ثنائي ميثيل فوسفات الميثيل
(DMMP)
إضافة إلى مادتي حمض الهيدروفلوريك وإيزوبروبانول اللتين تستخدمان في إنتاج غازات
سامة من بينها السارين.
أمّا
عنوان شحن هذه المواد فاتضح أنه كان "معهد البيولوجيا في نس تسيونا"،
فيما شُحنت المواد من شركة Sultronic Chemical Company ، بنسلفانيا- الولايات
المتحدة. بعد انكشاف الأمر، ادّعت إسرائيل أن تلك المواد كانت لـ"أغراض
دفاعية"، بينها اختبار متانة أقنعة الغاز. ولكن الفضيحة أن اختبارات متانة
الأقنعة تتطلب كميات قليلة، وليس كتلك التي حملتها الطائرة؛ حيث قدّر الخبراء أن
كمية المواد التي حملتها على متنها كانت كافية لإنتاج حوالي 270 كيلوغراماً من غاز
السارين، وهي كمية كافية للقضاء على سكان العديد من أكبر مدن العالم.
إذن،
ما الذي يُنتج حقاً في "نس تسيونا"؟ وفقاً لكتاب أفنير كوهين، فإن أهم
دراسة في هذا الشأن أجراها الصحافي الهولندي كاريل كنيب لصحيفة إن آر سي
هاندلسبلاد (NRC Handelsblad) اليومية. مسح كنيب جميع المنشورات العلمية
المفتوحة للمعهد منذ تأسيسه، وبمساعدة خبراء الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، نشر
وثيقة شاملة حول ما يطوّره وينتجه المعهد. زود كنيب كوهين بترجمة إنجليزية للوثيقة
المكونة من تسع صفحات. ووفقاً للوثيقة، ينتج المعهد البيولوجي غازات الأعصاب مثل
السارين والتابون وغاز الأعصاب، بالإضافة إلى ذلك يطور المعهد مواد كيميائية
مُشلة، وهي مواد تؤثر على الجهاز العصبي، لكنها ليست قاتلة.
في
مجال علم الأحياء، حدد المسح الببليوغرافي الذي أجراه كنيب سلسلة من البكتيريا
وفيروسات الأمراض والسموم والمواد المُشَلِّلة التي دُرِسَت في المعهد البيولوجي.
في أوائل ومنتصف خمسينيات القرن العشرين، ركّزت أنشطة المعهد البحثية على نواقل
الطاعون الدبلي والتيفوس وداء الكلب، ثم ركزت لاحقاً على دراسات حول تكاثر الحشرات
الناقلة لهذه الأمراض، مثل البعوض وبق الفراش وما شابه (وفقاً لما ورد في كتاب
التابو الأخير). ولئن كانت هذه الأبحاث تشير إلى أن إسرائيل تطوّر دفاعات ضدها،
فإن تحطم الطائرة كان دليلاً لا يدع مجالاً للشك في أن الكميات التي احتوتها
الشحنة لم تكن ستستخدم في تطوير الدفاعات ضد أسلحة كهذه وإنما إنتاجها لاستخدامها
في قتل البشر بأعداد كبيرة.
يعمل
في المعهد حالياً مئات الأشخاص، منهم الكثير من العلماء الحاصلين على درجة
الدكتوراه في الأحياء والكيمياء الحيوية والتكنولوجيا الحيوية والرياضيات
والكيمياء العضوية. ويرأس المعهد شموئيل يتسحاقي الذي عُيّن في منصبه منذ العام
2021. وفقًا لكتاب الجاسوس السوفييتي كلاينبرغ، أجرى علماء من المعهد لسنوات أبحاث
دكتوراه بناءً على عملهم الأمني في المعهد. أُجريت الأبحاث بالتعاون مع الجامعة العبرية في القدس، وفي حال قُرر أن موضوع البحث عسكري، كانت أطروحة الدكتوراه تُعتبر سرية، وكان على الأستاذ المشرف عليها الحصول على تصريح أمني للإشراف عليها. وهكذا، مُنحت درجات الدكتوراه في
علم الأحياء والكيمياء لسنوات بناءً على أطروحات دكتوراه مُصنّفة على أنها سرية
ولم تُنشر قط - وهو وضع يبدو أنه غير موجود في أي مؤسسة أكاديمية في العالم.