العدد 1695 /24-12-2025

تُظهر أحدث البيانات الرسمية للاقتصاد الأميركي مؤشرات متناقضة يصعب قراءتها في إطار واحد. فبينما ارتفع معدل البطالة إلى 4.6% في نوفمبر/تشرين الثاني 2025، وهو أعلى مستوى يسجل في أربع سنوات، لم ينجح سوق العمل إلا في إضافة 64 ألف وظيفة فقط خلال الشهر نفسه، بعد أن كان قد فقد نحو 105 آلاف وظيفة في أكتوبر/تشرين الأول. واقع يشير إلى نمو محدود في الوظائف على أساس شهري لم يصل لتعويض الخسائر السابقة، ولا لتثبيت البطالة في ظل نمو القوى العاملة. ويزداد هذا التناقض وضوحاً عند النظر إلى مؤشرات الدخل، إذ تباطأ نمو متوسط الأجور بالساعة إلى 3.5% على أساس سنوي، مقابل معدل تضخم يقترب من 3%، ما يعني أن نمو الأجور الحقيقية بات لا يتجاوز هامشاً ضيقاً يقلّ عن 0.5%. وفي الوقت نفسه، ارتفعت نسبة العاملين بدوام جزئي لأسباب اقتصادية، كما بلغت نسبة من يعملون بأكثر من وظيفة نحو 5.8% من إجمالي العاملين، وهو أعلى مستوى يسجل منذ مطلع القرن.

أما على مستوى التوزيع الاجتماعي لسوق العمل، فقد قفز معدّل البطالة بين الأميركيين السود إلى 8.3%، أي ما يقرب من ضعف المعدل العام، في حين بقيت بطالة فئات أخرى عند مستويات أدنى بكثير، ما يعكس اتساع فجوة التوظيف وعدم توازن إثر التباطؤ. وتأتي هذه المؤشرات مجتمعةً في وقت تمثل فيه مكاسب الوظائف المسجلة أقل من الحد الأدنى التقديري اللازم (بين 70 و100 ألف وظيفة شهرياً) للحفاظ على استقرار سوق العمل. وفي سياق هذه المؤشرات المتناقضة، خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب في خطاب وطني متلفز مساء 17 ديسمبر/ كانون الأول، ليعلن أن الاقتصاد عاد من حافة الانهيار، وأن الأسعار تنخفض بسرعة، وأن عدد العاملين اليوم هو الأعلى في تاريخ الولايات المتحدة، وأن 100% من الوظائف التي أنشئت منذ توليه المنصب جاءت في القطاع الخاص، مضيفاً أن الأسعار تنخفض بسرعة، وأن سياساته الجمركية والضريبية وضعت الاقتصاد على مسار ازدهار قوي.

غير أن المقارنة بين مضمون هذا الخطاب والبيانات الرسمية تكشف فجوةً واضحةً بين سردية الإنجاز السياسي ودلالات المؤشرات الاقتصادية. فالأرقام التي يستند إليها الخطاب الرسمي صحيحة من حيث التسجيل الإحصائي، لكنها، عند وضعها في سياقها الزمني والاجتماعي، تعكس اقتصاداً يعاني تباطؤاً في الزخم، وارتفاعاً في البطالة، وضعفاً في القدرة الشرائية، وتدهوراً غير متكافئ في فرص العمل بين الفئات السكانية. وهنا لا يتمثل التناقض في وجود أرقام إيجابية أو سلبية بحد ذاتها، بل في انتقائية توظيفها لتأكيد سردية التعافي، مع تجاهل المؤشرات التي تشير إلى هشاشة الاتجاه العام للاقتصاد الأميركي في 2025.

ما الذي لم يقله ترامب؟

تجاهل خطاب ترامب أنّ جزءاً معتبراً من تحسن سوق العمل المسجل في نوفمبر/ تشرين الثاني يعود إلى عوامل محاسبية واستثنائية أكثر من كونه انعكاساً لتعافٍ اقتصادي فعلي. فالبيانات الصادرة عن وزارة العمل أظهرت أن خسائر أكتوبر/ تشرين الأول كانت مرتبطة إلى حد كبير بخروج أكثر من 150 ألف موظف فيدرالي من كشوف الرواتب ضمن برامج الاستقالة المؤجلة وتقليص حجم الحكومة، ما يعني أن مكاسب نوفمبر المحدودة جاءت بعد صدمة مصطنعة في سوق العمل، وليس نتيجة توسع إنتاجي أو استثماري واسع. كذلك غاب عن خطاب ترامب أن مراجعات بيانات التوظيف السابقة جاءت نزولية، إذ جرى تخفيض أرقام أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول بنحو 33 ألف وظيفة مجتمعة، وهو اتجاه يعكس ضعفاً هيكلياً في وتيرة خلق الوظائف خلال النصف الثاني من العام، وليس مجرد تذبذب عابر.

وفي 10 ديسمبر/كانون الأول 2025، حذر رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم باول، خلال مؤتمر صحافي أعقب اجتماع لجنة السياسة النقدية، من أن الاقتصاد الأميركي يمرّ بمرحلة غير اعتيادية للغاية، مشيراً إلى أن بيانات التوظيف الرسمية قد تعطي صورة أكثر تفاؤلاً مما هو قائم فعلياً. وكشف باول أن التقديرات الداخلية للمجلس تشير إلى أن أرقام الوظائف المعلنة تُبالغ في تقدير نمو التوظيف بنحو 60 ألف وظيفة شهرياً، موضحاً أن إضافة 40 ألف وظيفة قد تعني فعلياً فقدان 20 ألف وظيفة على أرض الواقع بعد احتساب التصحيحات. وأضاف أن هذا الخلل في القياس يجعل سوق العمل أضعف مما تعكسه العناوين الرئيسية، وأن الاقتصاد قد يكون قريباً من حالة صفر نمو وظيفي فعلي منذ الربع الثاني من 2025، رغم بقاء مطالبات البطالة عند مستويات منخفضة تاريخياً.

وفي الوقت الذي يروّج فيه خطاب ترامب لانخفاض الأسعار، تظهر البيانات أن الضغط الحقيقي على الأسر لا يأتي من التضخم وحده، بل من تباطؤ الدخل. فمع نمو الأجور الاسمية بنسبة 3.5% فقط، وتضخم يلامس 3%، تصبح المكاسب الحقيقية شبه معدومة، خصوصاً لدى الشرائح المتوسطة والدنيا التي تواجه ارتفاعاً متواصلاً في الإيجارات، وتزايداً في معدلات التعثر الائتماني، وتكاليف معيشة لا تعكسها المؤشرات العامة بالكامل. وتشير بيانات سوق العمل إلى أن ارتفاع نسبة من يعملون بدوام جزئي لأسباب اقتصادية، إلى جانب بلوغ نسبة العاملين بأكثر من وظيفة 5.8%، لا يعكس مرونة أو ازدهاراً، بل محاولة تعويض الدخل في بيئة لم تعد فيها الوظيفة الواحدة كافية لضمان الاستقرار المالي، وهو نمط تاريخياً يرتبط بمراحل ما قبل الركود أكثر من مراحل الانتعاش.

هل نحن أمام بيانات "مضللة"؟

في هذا السياق، يرى دين بيكر؛ كبير الاقتصاديين في مركز البحوث الاقتصادية والسياسات العامة بواشنطن، في تحليل نشره على موقع كاونتر بانش أن جوهر الإشكال لا يكمن في ضعف رقم بعينه، بل في اختلال البنية التفسيرية لتقرير الوظائف نفسه. فبحسب بيكر، جاء تقرير نوفمبر/ تشرين الثاني في ظروف استثنائية غير مسبوقة، نتيجة الإغلاق الحكومي الطويل، ما جعل قراءة الأرقام عملية محفوفة بالالتباس، ليس فقط بسبب غياب بيانات شهر كامل، بل لأن أثر الإغلاق لا ينعكس مباشرة في المؤشرات التقليدية، بل يظهر في السلوكيات الاقتصادية غير المباشرة. ويشير بيكر إلى أن القفزة الكبيرة في العمل الجزئي القسري، والزيادة القياسية في نسبة العاملين بأكثر من وظيفة، تمثلان إشارات أوضح على اتجاه سوق العمل من العناوين الرئيسية للتوظيف.

فهذه المؤشرات، بحسب بيكر، لا تظهر عادة في فترات الانتعاش المستقر، بل تتصاعد عندما يواجه العاملون صعوبة في الحصول على وظائف بدوام كامل أو الحفاظ على مستوى دخل ثابت. ويضيف أن الاعتماد المتزايد على تعدد الوظائف يعكس ضغوطاً داخلية حقيقية، لا يمكن تفسيرها بالمرونة أو التفضيلات الشخصية. كما يلفت بيكر إلى أن التركيز السياسي على أرقام التوظيف المطلقة يغفل عنصراً حاسماً، وهو جودة الوظائف. فحتى في حال استمرار إضافة وظائف من حيث العدد، فإن تراجع ساعات العمل، وتباطؤ نمو الأجور الحقيقية، واتساع فجوة الدخل، تعني أن التحسن الظاهري لا يترجم بالضرورة إلى تحسن في الواقع المعيشي. ووفق بيكر، فإن الاقتصاد قد يضيف وظائف، لكنه في الوقت نفسه يخلق وظائف أضعف من حيث الاستقرار والدخل.

وفي ما يتعلق بالجدل حول العمال المولودين في الولايات المتحدة، يحذر بيكر من الوقوع في فخ القراءة السطحية للبيانات، موضحاً أن الزيادة المعلنة في عدد العاملين من هذه الفئة لا تعكس بالضرورة تحسناً فعلياً في فرص العمل، بل تعود في جزء كبير منها إلى آليات حسابية يعتمدها مكتب إحصاءات العمل. ويؤكد أن المؤشر الأصدق لقياس أوضاع هذه الفئة يظل معدل البطالة بينهم، والذي واصل الارتفاع خلال العام الجاري، ما يتناقض مع الخطاب المتفائل. أما على صعيد التفاوت الاجتماعي، فيعتبر بيكر أن الارتفاع الحاد في بطالة الأميركيين السود يشكل إشارة إنذار مبكرة لا ينبغي تجاهلها. فالتاريخ الاقتصادي الأميركي، وفق تحليله، يُظهر أن تدهور أوضاع هذه الفئة غالباً ما يسبق التباطؤ الأوسع في سوق العمل، وهو ما يجعل القفزة الأخيرة في بطالتهم مؤشّراً ذا دلالة تتجاوز حدودها المباشرة.

ويخلص بيكر إلى أن الخطر الأكبر لا يتمثل في ضعف الأرقام وحده، بل في المبالغة المستمرة في تفسيرها. فمع المراجعات النزولية المتكررة، والتحذيرات الرسمية من تضخيم أرقام التوظيف، تصبح صورة سوق العمل أقل صلابة مما يوحي به الخطاب السياسي. ويرى أن الاقتصاد الأميركي في 2025 قد يكون عملياً في حالة جمود وظيفي، مع ميل تدريجي نحو فقدان وظائف، وهو واقع لا يظهر فوراً في العناوين، لكنه يتراكم بهدوء في تفاصيل البيانات. وبحسب بيكر، فإن الحكم على قوة الاقتصاد من خلال أرقام مجتزأة أو لحظية، من دون النظر إلى الاتجاه العام وجودة النمو، لا يقدم تشخيصاً دقيقاً للوضع القائم، بل يؤجل الاعتراف بتحديات قد تصبح أكثر كلفة كلما طال تجاهلها.