العدد 1696 /31-12-2025

وائل قنديل

واحد: منحَ العربُ كياناً استعمارياً لقيطاً اعترافاً بشرعية وجوده على أرض فلسطين المحتلّة.

اثنان: منحَ هذا الكيان الاستعماري غير الشرعي اعترافاً بشرعية كيانٍ انفصاليٍّ صوماليٍّ على أرض الصومال.

ثلاثة: غضب العرب وهاجوا وماجوا ضدّ اعتراف الكيان الاستعماري بالكيان الانفصالي.

لم يُغضِبْهم اعترافُ الكيان الانفصالي بالاحتلال الصهيوني، لكن ما أغضبهم اعتراف الاحتلال بالانفصال؛ هذا الاحتلال الذي اعترفوا به وتبادلوا معه المصالح السياسية والاقتصادية، وفتحوا له سفاراتٍ في أرضهم، وأبرموا معه صفقاتٍ ضخمة للاتجار في مسروقاته من أرض فلسطين.

هنا ثمّة حالة خللٍ منطقيٍّ وعوارٍ أخلاقيٍّ في اعتبار اعتراف إسرائيل بدولة أرض الصومال تهديداً يمسّ بالأمن القومي العربي؛ ذلك أنه، بالمنطق في هذه الحالة، ثمّة إقرارٌ واعترافٌ بأن إسرائيل باتت جهةً طبيعيةً لمنح الشرعية لكيانات ناشئة على حساب ما استقرّ بحكم التاريخ والجغرافيا. أمّا العوار الأخلاقي فهو مرور مسألة اعتراف انفصاليّي أرض الصومال بالكيان الصهيوني من دون أن تفجّر الغضب ذاته من اعتراف الصهاينة بدولةٍ مقتطّعةٍ من لحم الصومال التاريخية.

في الاجتماع الذي عقده مجلس جامعة الدول العربية أمس، كمية تنديد وشجب وإدانة واستنكار ورفض تكفي لصدّ فيضان النيل، وفوق ذلك اعتبار إسرائيل كياناً غير قانوني، إذ يختم البيان الصادر عن الاجتماع بالقول: "إن هذا الاعتراف الإسرائيلي غير القانوني يعتبر جزءاً من محاولات إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال غير القانوني، لزعزعة الأمن والسلم الدوليين، واعتداء على الأمن القومي العربي، يستوجب اتخاذ إجراءات قانونية واقتصادية وسياسية ودبلوماسية ضدّه".

كلام رائع وبيان قوي، لكن السؤال الإشكالي هنا: كم دولة من الدول العربية الموقّعة البيان لديها علاقات سياسية واقتصادية ودبلوماسية كاملة مع إسرائيل؟ كم دولة منها تُسبغ، منفردةً، شرعيةً دبلوماسيةً وسياسيةً واقتصاديةً على هذه "القوة القائمة بالاحتلال غير القانوني"؟ وكم دولة منها أسهمت في فتح أبواب أفريقيا السمراء على مصراعيها أمام التوغّل الصهيوني بالاقتصاد والسلاح حتى باتت تمنح الشرعيات لمن يطلبها؟

من المهم التذكير بأنه حتى نهاية السبعينيّات كانت دول أفريقيا السمراء تدير علاقاتها الدبلوماسية وفقاً لمعادلة: إمّا مصر (ودول عرب أفريقيا) أو الكيان الصهيوني. وبما أن مصر كانت في ذلك الوقت لا تزال تحترم تاريخها وجغرافيتها وتصون عمقها الاستراتيجي وتحافظ على انتمائها الحضاري، فقد كانت المسألة محسومةً للغالبية العظمى من دول القارّة، فتسلك مع إسرائيل على النحو الذي يحترم الحقّ العربي ويحتفظ بعلاقات جيّدة وراسخة مع كبيرة دول القارة: مصر العربية الأفريقية، داعمة ثورات التحرّر وقبلة المناضلين ضدّ الاستعمار من كل مكان.

بيد أن كل هذه الحقائق التاريخية أُهينت وأُهدرت وأخذت في التآكل منذ قرّر أنور السادات أن يتصالح مع العدو التاريخي، ويتخاصم مع التاريخ والجغرافيا. ثم تفاقم انكماش الوجود المعنوي والحضاري المصري في أفريقيا في زمن حسني مبارك، حتى وصلنا إلى منتصف العشرية الثانية من القرن الحالي، لتستغلّ إسرائيل حالة انقسام مصر على ذاتها وتتغلغل في عمق أفريقيا، ليطلق بنيامين نتنياهو صيحته الشهيرة في العام 2016 معلناً تدشين جولته في سبع دول أفريقية: "إنني أخرج الآن في زيارة تاريخية في أفريقيا، نحن نفتح أفريقيا أمام إسرائيل من جديد".

الخلاصة، مصر وغيرها من الدول العربية المندّدة بعناق الكيان الصهيوني الاحتلالي والكيان الصومالي الانفصالي كانت من مسبّبات هذا العناق الحضاري المُشين، حين تبادلت هذه الدول وإسرائيل المصافحات والصفقات والسفراء، في خطّ موازٍ لإهمال دول عرب أفريقيا، أو بالأحرى تركها للاندفاع نحو صراعات داخلية وانقسامات وصراعات مع مليشيات انفصالية تدعمها إسرائيل، ودولة عربية معلومة للكافّة تنشط في إشعال الحرائق في عمق العرب الأفريقي.

يقول محمد فائق، وزير إعلام مصر وأحد الفاعلين في نظام جمال عبد الناصر، في حوار نُشر قبل أكثر من عشرين عاماً، إن ثلث عدد الدول العربية يقع في أفريقيا، والدين الأول فيها هو الدين الإسلامي. وإذا تعمّقنا في التاريخ نجد أن للإسلام ثقافةً تجمعنا بجزءٍ كبير من الشعوب الأفريقية، وسنجد أن كثيراً من اللهجات الأفريقية مكتوبة بالحرف العربي، والفراعنة وصلوا إلى ملتقى النيل الأبيض بالنيل الأزرق، ووصلوا إلى بلاد بونت (أرض الصومال)، ووصلوا إلى أرض كوش التي يُطلق عليها الآن السودان. وبطبيعة الحال، كان وجود مصر في أفريقيا حاجزاً مانعاً لوجود إسرائيل، وبعد أن اعترفت مصر بإسرائيل انتهى الحاجز. ... تلك هي المسألة باختصار.