العدد 1666 /4-6-2025
أعادت الحرب على قطاع غزة تشكيل سوق العمل، بعدما أطاحت
قطاعات اقتصادية كاملة، وأفرزت مهناً جديدة نتيجة التغيرات الهيكلية العميقة في
بنية الاقتصاد المحلي، ليدخل سوق العمل مرحلة إعادة تشكّل قسرية.
وفي ظل الحاجة الماسة لمواكبة تداعيات الحرب وانعكاساتها
السلبية، لجأ المواطنون إلى ابتكار مهن بديلة، خصوصاً مع تجاوز معدلات البطالة
حاجز الـ80%، ما يؤشر إلى تحوّل هيكلي واضح يُظهر تدهوراً كبيراً في الاتجاهات
الاقتصادية وسوق العمل.
وتوقفت أغلبية القطاعات الإنتاجية والخدمية بفعل استمرار
العدوان والدمار الواسع وإغلاق المعابر، مما أدى إلى تفكك المنظومة الاقتصادية،
ونشوء تحول هيكلي عشوائي في سوق العمل، حيث جرى استبدال الوظائف الرسمية المنظمة
بأعمال غير رسمية وطارئة تفتقر إلى الأمان والاستقرار، لكنها في الوقت ذاته تعكس
قدرة الغزيين الفريدة على التكيّف والصمود في وجه الكارثة.
فبعد تدمير مؤسسات الدولة ومعظم الشركات ومصادر الإنتاج،
اتجه سكان غزة إلى العمل في مهن أفرزتها الحرب، مثل البيع العشوائي وإصلاح الأوراق
النقدية والنقل اليدوي وبناء الخيام وغيرها من المهن المستحدثة لمواجهة شبح
البطالة.
تحولات جذرية
أكد رئيس اتحاد نقابات العمال بغزة، سامي العمصي، أن سوق
العمل المحلي يشهد تحولات جذرية وغير مسبوقة، أدت إلى اندثار مهن تقليدية وظهور
مهن جديدة فرضتها ظروف الحرب والحصار والبطالة المرتفعة.
وقال العمصي إن الحرب دمّرت البنية الاقتصادية وأطاحت قطاعات
كاملة، ما أدى لفقدان الآلاف من الوظائف، لتتعدى نسبة البطالة الـ80%، في ظل توقف
شبه تام لسوق العمل المنظم وانتشار السوق السوداء.
وبيّن أن العمال الذين فقدوا فرص عملهم، استحدثوا مهناً
جديدة تتماشى مع ظروف الحرب والحالة القائمة، محذّراً من أن استمرار الحرب وتغييب
الحلول التنموية سيؤدي إلى "تشوه دائم في سوق العمل"، ما يستدعي تحركاً
عاجلاً من جهات الاختصاص والمنظمات الدولية لحماية حقوق العمال وتقديم دعم مالي
ومهني مستدام.
وشدّد على أن معالجة أزمة البطالة المتفاقمة في غزة تتطلب
رؤية وطنية شاملة تعيد الاعتبار لقطاع العمال وتوفر له الحماية والتشغيل والدعم
المهني، في ظل تداعيات الحرب التي دمّرت أكثر من 80% من سوق العمل في القطاع.
وأشار العمصي إلى أن الواقع الحالي "كارثي"، في ظل
فقدان أكثر من 200 ألف عامل أعمالهم نتيجة الدمار الشامل للبنية الاقتصادية وتوقف
عجلة الإنتاج، وهو ما يستدعي تدخلاً عاجلاً لإنقاذ هذا القطاع الحيوي.
وحدد أبرز المتطلبات العاجلة للنهوض بقطاع العمال، والتي
تتمثل في إطلاق برامج تشغيل مؤقت واسعة النطاق بتمويل محلي ودولي تستهدف الخريجين
والعمال العاطلين، وإعادة تأهيل البنية التحتية الاقتصادية وتشجيع المصانع
والمنشآت على استئناف العمل من خلال الدعم الفني المتاح، وكذلك تحفيز المشاريع
الصغيرة ومتناهية الصغر وتمويلها وتشجيع التدريب المهني والتقني لخلق فرص في المهن
المستحدثة، والتي فرضتها الحرب مثل الصيانة والتدوير والخدمات اللوجستية، وكل ذلك
لن يحدث إلا بتوقف حرب الإبادة وبدء إعادة الإعمار.
وشهدت المؤشرات الاقتصادية في غزة خلال عام 2024، أرقاماً
كارثية، حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 82%، وارتفعت معدلات الفقر لأعلى
من 90%، في وقت يعتمد فيه قرابة 95% من الغزيين على المساعدات، بالتزامن مع تسجيل
معظم الأنشطة الاقتصادية في قطاع غزة تراجعاً كبيراً خلال نفس العام، حيث انخفض
نشاط الإنشاءات بنسبة 98%، والصناعة بنسبة 90%، والزراعة بنسبة 91%، والخدمات
بنسبة 81%.
مهن جديدة
قال الأكاديمي والمختص في الشأن الاقتصادي، نسيم أبو جامع،
إن سوق العمل في غزة بات يواجه "غولين" هما الفقر والبطالة، موضحاً أن
المواطن لم يعد أمامه سوى خيار البحث عن أي فرصة عمل، حتى وإن كانت محدودة أو
مؤقتة.
وأكد أبو جامع أن نسبة البطالة في غزة تجاوزت 80%، فيما تشير
تقديرات دولية إلى أن أكثر من 200 ألف فرصة عمل فُقدت منذ بدء الحرب في
أكتوبر/تشرين الأول 2023، بسبب تدمير البنية التحتية للقطاعات الإنتاجية، وعلى
رأسها الصناعة والزراعة والسياحة والتجارة.
وأضاف أبو جامع في حديث لـ "العربي الجديد":
"ما نشهده من محاولات لتوفير دخل، مثل مهن إصلاح الأوراق النقدية والنقل
اليدوي والبيع العشوائي وغيرها، هي حلول فردية وطارئة لا يمكنها تعويض الفجوة
الهائلة التي خلّفها تدمير الاقتصاد المحلي".
وأكد أن الحل لا يمكن أن يكون فردياً، بل يتطلب تحركاً
حكومياً منظماً وتدخلاً جاداً من القطاع الخاص، إلى جانب دعم دولي عاجل لإعادة
إنعاش السوق المحلي، وتوفير برامج تمكين اقتصادي للشرائح المتضررة.
وختم الأكاديمي الاقتصادي حديثه: "الاقتصاد الغزّي لا
يحتاج فقط إلى البدء بإعادة إعمار، بل إلى إعادة هيكلة شاملة تأخذ بعين الاعتبار
تحديات ما بعد الحرب، وفرص النمو الذاتي وقدرة الناس على الصمود".