العدد 1674 /30-7-2025

تصل شاحنات المساعدات إلى مناطق قريبة من نقاط  جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، والذي يكرر قتل المتجمعين واستهداف عناصر التأمين، بينما يستولي لصوص على كميات كبيرة من المساعدات.

يراوح الاحتياج اليومي للمواد الغذائية والاحتياجات الأساسية في قطاع غزة بين 600 و800 شاحنة في الأيام العادية، بينما يفترض ألا يقل حالياً عن ألف شاحنة يومياً لتجاوز تداعيات العدوان القاسية، لكن ما دخل القطاع خلال الأيام الأخيرة لا يصل إلى مائة شاحنة يومياً، ما يجعله قاصراً عن تغيير واقع التجويع القائم.

وتكرر قيام طائرات الاحتلال بعمليات إنزال جوي لعدة صناديق مساعدات في مناطق مصنفة "حمراء"، ما يعرض الأهالي الذين يلاحقونها للخطر، ما أدى إلى استهجان واسع لهذه الآليات التي تتعمد الإساءة للفلسطينيين، فضلاً عن قيام جيش الاحتلال بإطلاق زخات من الرصاص قبل دخول الشاحنات، وباتت هذه الطريقة التي يعرف منها الأهالي موعد وصول الشاحنات.

ورغم الدعوات المجتمعية لتأمين شاحنات المساعدات، قام جيش الاحتلال أكثر من مرة باستهداف عناصر التأمين، خصوصاً من يحاولون تأمين الشاحنات القادمة من منفذ "زيكيم" شمال غربي القطاع، ومنعت عناصر التأمين المواطنين من التوجه إلى منطقة السودانية، لكن قبيل تحرك الشاحنات، استهدفت طائرات بدون طيار مجموعتين من عناصر التأمين، ما خلف 10 شهداء، وأدى إلى سرقة محتويات الشاحنات.

ويؤكد رئيس التجمع الوطني للقبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية، علاء الدين العكلوك، لـ "العربي الجديد"، أن "استهداف عناصر التأمين يعبر عن رغبة واضحة من جيش الاحتلال في مواصلة إبادة الشعب الفلسطيني، وفرض سياسة التجويع الممنهجة أداةً لفرض الإخضاع أو التهجير، والفوضى القائمة هدفها تعطيل وصول المساعدات، والإبقاء على مشهد الدم والمجازر، ما يحتم على المجتمع الدولي، وعلى وجه الخصوص الدول العربية والإسلامية، التحرك الفوري لوقف شلال الدم الفلسطيني، وممارسة كل أشكال الضغط على الاحتلال لرفع الحصار وفتح المعابر".

بدوره، يؤكد مدير شبكة المنظمات الأهلية في غزة، أمجد الشوا، أن الوضع الإنساني في القطاع بلغ مرحلة خطرة، وأوضح لـ"العربي الجديد"، أن "أكثر من 94% من سكان القطاع أصبحوا نازحين، وهم يعيشون في مساحة لا تتجاوز 12% من إجمالي مساحة قطاع غزة. المساعدات الإنسانية التي أعلن دخولها لا تلبي الحد الأدنى من احتياجات السكان، و60 أو 70 شاحنة يومياً لا تتناسب مع الواقع الميداني المأزوم، كما تعترضها الكثير من العراقيل، خصوصاً المجموعات الخارجة عن القانون، والتعمد الإسرائيلي لتأخير دخولها".

 

ويشدد الشوا على "ضرورة ضمان تدفق المساعدات بكميات كبيرة ومنتظمة، وبأصناف تلبي الاحتياجات الأساسية، خاصة حليب الأطفال والمكملات الغذائية، والأدوية والمستلزمات الطبية، إلى جانب العمل على إعادة تشغيل المطابخ الخيرية والمخابز المتوقفة. التقارير الدولية توثق وجود مجاعة فعلية، وليس مجرد حالات سوء تغذية، وهذه نتيجة مباشرة لسياسة ينتهجها الاحتلال، وتهدف إلى استخدام الجوع سلاحا".

ويتابع: "عمليات الإنزال الجوي لا يمكن أن تشكل بديلاً عن فتح المعابر البرية التي تتيح إدخال كميات أكبر من المساعدات، وبكفاءة أعلى وتكلفة أقل، وينبغي تكثيف التحرك الدولي من أجل إدخال ما لا يقل عن ألف شاحنة يومياً لتغطية احتياجات أهالي غزة القطاع. حالات الإعياء الشديد، وسقوط ضحايا يومياً بسبب الجوع يتطلبان تحركاً دولياً عاجلاً لوقف الكارثة الإنسانية".

من جانبه، يؤكد المرصد "الأورو متوسطي" لحقوق الإنسان، أن الأوضاع على الأرض مختلفة تماماً، وأن "مناورة إسرائيل الإعلامية بشأن إدخال المساعدات إلى غزة مفضوحة، ويكذبها الواقع"، مطالباً المجتمع الدولي بعدم التماهي مع وصفه بـ"سياسات إدارة التجويع".

في مناطق التوزيع، سواء في شمالي القطاع قرب معبر "زيكيم"، أو في الوسط قرب محور "نيتساريم"، وفي الجنوب قرب منطقة ميراج جنوب خانيونس، يضطر الشبان للاحتماء خلف الركام، بينما لا يتوقف إطلاق الرصاص بعد دخول الشاحنات وبدء التدافع عليها، ما يؤدي إلى تسجيل شهداء ومصابين، في مجازر تمثل استغلالاً صريحاً لحاجة الناس، إذ يتصارع الآلاف على حمولة شاحنات يراوح عددها بين خمس وثماني شاحنات.

في 20 يوليو/ تموز الماضي، ذهب الفتى يزن الجوجو (16 سنة) مع أعمامه إلى شمالي غزة، لجلب كيس طحين لعائلته، وحينما امتدت يده إلى كيس الطحين، وما أن تلقفه بذراعيه، حتى استقرت رصاصة قناص إسرائيلي في رأسه، ليستشهد على الفور، في أكبر مجزرة مساعدات تسجلها وزارة الصحة الفلسطينية، والتي نجم عنها 88 شهيداً و500 إصابة.

خاطر يزن، وهو الابن الأكبر للعائلة، كي يعود بكيس طحين يكسر حدة الجوع، ومع تأخر عودته، بدأ القلق يسيطر على والده، والذي صدم لاحقاً بصورة لابنه الشهيد انتشرت عبر تطبيق "تليغرام". يقول الأب المكلوم لـ "العربي الجديد": "في البداية وجدت صعوبة بالتعرف إلى ملامحه بسبب الدماء والغبار ولف رأسه بالشاش الطبي، لكني عرفته من خلال ملابسه. كانت صدمتي كبيرة، فلدي ثلاثة أولاد، وهو الأكبر بينهم، وساعدني لسنوات في كل شيء، إذ كان يقوم بتعبئة المياه، وإشعال النار، وجلب الطعام. آلية إدخال المساعدات هي استدراج للشباب بهدف قتلهم، ولم يخل يوم تدخل فيها شاحنات مساعدات من جرائم يرتكبها جيش الاحتلال. هل أصبحت دماء فلذات أكبادنا ثمناً للطعام؟".

وبينما تحاول آلية المساعدات الحالية إظهار أن المجاعة انتهت من خلال حملات إعلامية ضخمة ترافق إدخال بضع عشرات من الشاحنات. يقول الفلسطيني صبحي حمدان لـ "العربي الجديد": "هذه الحملات الإعلامية تناقض الواقع المعاش في قطاع غزة، فالحقيقة أن حالات سوء التغذية تتوافد على المستشفيات، وصور الأطفال الذين أصبحوا هياكل عظمية بسبب التجويع منتشرة، وما يدخل القطاع يحصل عليه الموجودون عند خطوط التماس، وهم لا يعادلون 5% من سكان القطاع".

ويتساءل حمدان: "ما الذي يدفع رب أسرة للمجازفة بحياته كي يحصل على كيس طحين ليطعم أطفاله؟ هذا أكبر دليل على أن المجاعة تفتك بجميع أهل غزة. أصناف الطعام القليلة المتوفرة بالأسواق لا تجد من يشتريها لغلاء سعرها، وعدم امتلاك الناس المال".

بدورها، تقول فداء عز الدين، وهي أم لأربعة أيتام، لـ "العربي الجديد": "ما ذنبنا إن كانت المساعدات لا تصل إلى الأيتام ومن لا معيل لهم؟ من الذي سيخاطر بالذهاب إلى زيكيم لجلبها؟ هل أذهب أنا، أم أرسل أطفالي الصغار؟ لا أستطيع المخاطرة بهم، فالكثير ممن يذهبون يعودون شهداء أو مصابين. طوال الأسبوعين الماضيين، لا نأكل سوى العدس، ونحصل عليه من التكيات الخيرية في مخيمنا، ولا يوجد لدينا دقيق، فسعر كيلو الدقيق 40 شيكل، وهذا يفوق مقدرتنا".

ويعيش الآلاف ممن فقدوا المعيل في أزمة متفاقمة، وغالبية هؤلاء لا يستطيعون الذهاب إلى مناطق التوزيع الخطرة للحصول على بعض الطعام وفق الآلية التي يفرضها جيش الاحتلال، والذي يزعم بدء سلسلة إجراءات لتحسين الاستجابة الإنسانية في قطاع غزة.

ويعود معظم من يخاطرون بحياتهم بالذهاب إلى أماكن وصول الشاحنات من دون جلب أي شيء لأطفالهم، سواء بسبب قلة عدد الشاحنات مقارنة بالعدد الكبير للمنتظرين، أو التدافع، مع تدخل أفراد عصابات يحملون الأسلحة البيضاء، ولديهم حافلات صغيرة، يقومون بنهب كميات من الطعام التي تحملها الشاحنات، وبيعها بأسعار باهظة في الأسواق، وتكرار ذلك مع كل دفعة  من شاحنات المساعدات.

ذهب الفلسطيني محمد الزبن إلى منطقة ميراج في جنوب القطاع، للعودة بشيء من الطعام لأطفاله، لكنه عاش لحظات عصيبة. ويروي لـ "العربي الجديد": "ذهبنا مشياً على الأقدام من مواصي خانيونس حتى ميراج، رغم أن المسافة طويلة، وربما تبلغ 17 كيلو متراً، وانتظرنا داخل الأبنية المهدمة لساعات قبل بدء دخول الشاحنات، وخلال فترة الانتظار كان جيش الاحتلال يستهدف أي جسم يتحرك. دخلت الشاحنات على خمسة دفعات، وفي كل دفعة كان جيش الاحتلال يسمح بمرور نحو خمس شاحنات، وذلك لإحداث حالة فوضى، وقتل وإصابة أكبر عدد من المتواجدين، ولو دخلت الشاحنات الثلاثين دفعة واحدة لكانت فرص الحصول على الطعام أكبر".

يضيف الزبن: "عانينا لساعات من الجوع والعطش، وعندما وصلت الشاحنات، اندفع الناس نحوها، بينما لم يتوقف الرصاص. قد تصاب بالرصاص، أو بالاختناق نتيجة التدافع، وقد تدهسك الشاحنة. تواجدت حتى المساء، ولم أعد سوى بحقيبة صغيرة تضم بعض المعلبات لأطفالي، وبعد عودتي فوجئت بانتهاء صلاحية كمية كبيرة من المساعدات التي دخلت عبر الحدود المصرية، إضافة إلى وجود معلبات غذائية غير مفيدة بالمرة. أعتقد أن الهدف هو ترويج أن الكميات كبيرة فقط. عندما فتحت الطرد الغذائي انتشرت رائحة العفن، وكان هناك دود في بعض المعلبات، وبعض معلبات المساعدات منتهية الصلاحية، وقمت برمي بعضها رغم حالة الجوع التي نعيشها. نسبة لا تزيد عن 30% من محتوى المساعدات تعتبر جيدة".