العدد 1668 /18-6-2025

بشير البكر

أصاب الدمار أغلب المحافظات السورية، من دير الزور في الشرق، مروراً بالرقة، وحلب، وإدلب، وحماة، وحمص، ودمشق، وصولاً إلى درعا، لكنّه يختلف بين مكان وآخر، تبعاً للفترة الزمنية التي استغرقها القتال، ونوعية الأسلحة المستخدمة، والطرف الذي قام بالقصف. هناك فارق واضح بين الدمار، الذي شهده مخيّم اليرموك الفلسطيني وحي جوبر الدمشقي، الواقعان داخل العاصمة السورية، رغم أن المسافة بينهما لا تتجاوز عشرة كيلومترات، وذلك يعود إلى أنه يمكن العثور في حي جوبر، الذي جرى قصفه بالطيران السوري ومدفعية الميدان والدبابات، على بعض الأبنية التي لا تزال واقفة حتى اليوم، بينما دُمِّر مخيّم اليرموك بالطيران الحربي الروسي على نحو مدروس، ولذلك جرت تسوية الأبنية بالأرض، بواسطة صواريخ فراغية تحيل المبنى إلى ما يشبه علبة كبيرة من الكرتون، تنطبق على بعضها.

يبدو الطريق طويلاً من قلب دمشق إلى مخيّم اليرموك؛ لأنّ المدينة بدأت تشهد حركة سير غير عادية، بسبب الإجراءات الأمنية المشدّدة المواكبة لزيارات الشخصيات الأجنبية، التي تتوافد بكثافة على العاصمة السورية، من وزراء عرب، وممثلين للدول الأجنبية. وكان من أهم هؤلاء توم براك، الممثل الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب في سورية، الذي رفع علم بلاده على مبنى السفارة، بالإضافة إلى رؤساء شركات ورجال أعمال من الخليج العربي، وأوروبا، وأميركا، والصين. لا يقف الأمر عند فوضى السير، فهناك ازدحام في المشاعر يرافق الحركة داخل المدينة، التي تبدو كما لو أنها تتنفس من جديد، بعد أن اختفت من شوارعها جيوش وأجهزة مخابرات النظام السابق، التي تعاملت مع السوريين كما لو أنهم يعيشون تحت حكم قوة احتلال أجنبي، قائم على السطوة والعنف والنهب بلا حدود من الغني والفقير، الشبعان والجوعان.

تشقّ سيارة الخبير الاقتصادي سمير سعيفان طريقها بصعوبة من الصالحية، التي كانت حياً تجارياً جميلاً في زمن بعيد، وتحولت إلى حارة تعج بدكاكين بيع الثياب، إلى منطقة الحلبوني، حيث باتت جامعة دمشق محاصرة ببسطات عشوائية، تحتل الأرصفة، وتبيع كل ما يلزم بسعر رخيص، ومن ثم حي الفحامة الذي كان أحد أحياء الطبقة الوسطى، وأصبح عتيقاً بسبب الإهمال، وبعد قليل نهر عيشة. هنا يظن عابر المكان أنه خارج دمشق، وأكثر ما يلفت الانتباه هو البناء العشوائي الذي تقادم عليه الزمن، وهو يعكس حالاً من الفقر الشديد، وينقل صورة نافرة عن إهمال الدولة، الذي يتوزع بين الأحياء حسب قرب سكانها، وموقعهم داخل بنية النظام السابق.

مخيّم اليرموك يميناً ومخيّم فلسطين يساراً

عند عبور الدوار في نهاية سوق نهر عيشة، ثمة قوسان كبيران يتجاوران، يزينهما علمان كبيران، لسورية وفلسطين. إشارتان بخط عريض، مخيّم اليرموك على اليمين، ومخيّم فلسطين على اليسار. ولكن الشهرة هي لليرموك، الذي تحول إلى مركز تجاري مهم في دمشق، وناهز عدد سكانه من السوريين، سكانه الفلسطينيين. البداية من مخيّم اليرموك الذي حمل اسم "عاصمة الشتات الفلسطيني". تتوغل السيارة قليلاً في شارع لوبية، الذي جاءت تسميته بسبب وجود غالبية سكانية في الأبنية المقامة على جنباته، تنتمي لبلدة لوبية الفلسطينية المدمرة منذ النكبة، والتابعة لقضاء مدينة طبريا داخل حدود فلسطين المحتلة عام 1948. هناك حركة خفيفة جداً للبشر والآليات، وثمة محلات فتحت أبوابها، بعضها يبيع مستلزمات البناء والأدوات الكهربائية، وأخرى الخضار والفواكه والمواد الأولية. عدد من الأبنية التي لم تسقط على الأرض كلياً، تشهد عمليات ترميم، وإعادة إعمار بقرار شخصي لبيوت تقع على الشارع الذي يمتد على مسافة حوالى كيلومتر، ومن ثم يتفرع في اتجاهين نحو اليمين، وآخر يساراً نحو مقبرة الشهداء التي تضم عدداً من قادة العمل الفلسطيني، ومنهم خليل الوزير (أبو جهاد)، وعزالدين القلق، وأبو العباس، ومحمد صيدم، وسعد صايل (أبو الوليد). وهي الآن في وضع مأساوي.

في نهاية الشارع الرئيسي، يبدو الترميم مستحيلاً، وإعادة الإعمار غير ممكنة، لأن الدمار يحول دون ذلك. دمار لا يوصف، ولا يشبه ما حصل في مكان آخر، يتفوق على نظيره في أحياء واجهت نفس الوحشية، كجوبر الواقع داخل مدينة دمشق، وضاحية داريا، وبلدة الزبداني، وقرى أرياف حماة وإدلب وشرق مدينة حلب. مجموعتنا التي زارت مخيّم اليرموك متعدّدة الاهتمامات، الاقتصادي السوري ومدير مركز حرمون سمير سعيفان، الكاتب والصحافي مدير تحرير صحيفة القدس العربي بلندن حسام الدين محمد، ونجله سامي الذي بدأ طريقه إلى عالم الأعمال. وكان بانتظارنا هناك، الكاتب ماجد كيالي، برفقة عدد من ساكني مخيّم اليرموك سابقاً، ومنهم مروان دراج، وعمر حميد، وأحمد شحادة، وخلدون الملاح. عاش بعض هؤلاء تفاصيل مشاركة مخيّم اليرموك في الحراك ضد النظام، وواجهوا نفس مصير ملايين السوريين، الذين ثاروا من أجل الحرية والكرامة.

خلدون الملاح طبيب شاب حمل اسماً حركياً معاوية الثاني، أراد أن يكون براغماتياً في زمن تعرض فيه المدنيون لحرب إبادة. هو الطبيب الجراح الوحيد في المخيّم. ولد في منطقة القابون بمدخل دمشق لجهة الطريق إلى حمص، ومنزله المدمر يقع خلف مشفى فلسطين بالمخيّم. تخرج من جامعة دمشق في 2006 وتخصّص بالجراحة البولية. يقول: بسبب الظروف الحرجة، يتوجب عليّ أن أكون ذكياً وداهية، اخترت هذا الاسم لأحافظ على نفسي، نظراً لكثرة الفصائل التي مرت على المخيّم. وصمد هناك يساعد المحاصرين حتى غادره إلى إدلب فور دخول النظام إلى مخيّم اليرموك في 2018، وعاد فور سقوطه. يقول إن حملة تدمير مخيّم اليرموك بدأت بعد خروج تنظيم داعش منه. وهو لم يكن في وضعية جيّدة، لكنه لم يكن مدمراً كلياً، ويمكن إعادة تأهيله. ويرى الملاح أن التدمير كان لهدفَين، استراتيجي وهو عدم إعادة ترميم المخيّم، واقتصادي مبتذل، وهو سرقة الحديد من الأبنية من الفرقة الرابعة.

منع سكان المخيّم من العودة

وفي التفاصيل التي رواها شباب من المخيم فقد أخلى النظام والفصائل الفلسطينية العاملة معه مخيّم اليرموك من السكان نهاية 2012، ومنعوهم من العودة، ولكن جرى إطلاق مبادرة للعودة بعد أسبوع من ذلك، وحضر الدكتور سمير الرفاعي العضو في إقليم حركة فتح في حينه، والسفير الفلسطيني الحالي بسورية، وطلب من الأهالي البقاء والمحافظة على أملاكهم. وبالفعل عاد البعض بعد أن اطمأن، وفي نفس هذا اليوم جاء الطيران الحربي وقصف مرة ثانية. وبعد ذلك لم يكن في وسع أحد من المسؤولين الفلسطينيين أن يتحمل مسؤولية دعوة الناس للعودة. ولذلك صار المخيّم يغلق الساعة الواحدة.

عانى الأهالي من المضايقات الأمنية، وجرى وضع حاجز تابع لفرع فلسطين وفرع المنطقة وجماعة حي التضامن بقيادة صالح إبراهيم الراس (أبو منتجب) الذي يُعتبر من أخطر قيادات مليشيا "الدفاع الوطني"، والمتهم بارتكاب انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان وجرائم حرب، ومع هؤلاء عدد من الفصائل الفلسطينية، ومنهم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ــ القيادة العامة. كانوا يوقفون ملثماً عند مدخل المخيّم، يتعرف على الناس، وبذلك اعتقلوا الكثيرين، وحولوا جامع البشير عند مدخل المخيّم إلى معتقل. كما وضعوا بوابة خاصة للدخول، تصادر الخبز من النساء، وتتعامل معهنّ بفظاظة، وجرى الحديث عن اغتصاب نساء من فلسطينيين على ذلك الحاجز.

هناك عدد من الآليات تعمل الآن في المخيّم، وثمة شاحنات تنقل آثار الردم، وتبرز بين حين وآخر مجموعة تتفقد منازل، يبدو من بعضها أنها تحتاج إلى نقل الركام وإعادة البناء من جديد. ويقول حميد إنه بعد سقوط النظام عاد بعض الأهالي، وما نراه يجري بمبادرات ذاتية، لكن ليس هناك مؤشرات على عودة السكان السابقين على غرار ما يحصل في مناطق سوريّة أخرى تعرضت للتدمير. وحسب أرقام غير رسمية فإن عدد سكان مخيّم اليرموك في 2011 كان يقترب من مليون شخص، من بينهم نحو 200 ألف فلسطيني، هاجر العدد الأكبر منهم هؤلاء إلى أوروبا، وليس في نيّتهم العودة.