العدد 1680 /10-9-2025
الدكتور حسن العاصي
في قلب دمشق، حيث تختلط رائحة الزعتر
برماد الحنين، كان مخيم اليرموك أكثر من مجرد حيٍّ مكتظٍ باللاجئين. كان وطناً
مؤقتاً، لكنه ثابت في وجداننا، كأنّه امتدادٌ لفلسطين التي غابت عن الخرائط ولم
تغب عن الأرواح. في اليرموك، لم تكن الأزقة مجرد ممرات ضيقة، بل كانت شرايين
لذاكرة حيّة، تحفظ أسماءنا كما تحفظ الأم ملامح أبنائها.
لم يكن مخيم اليرموك مجرد حيّ جنوبي
من مدينة دمشق. بالنسبة لي، كان العالم كله. حين كنت طفلًا، لم أكن أعرف أنني أعيش
في "مخيم"، ولم أكن أفهم معنى أن تكون لاجئًا. كنت أعرف فقط أنني أعيش
في مكانٍ يعرفني، ويُناديني باسمي، ويعرف من أنا حتى قبل أن أُعرّف نفسي.
كبرتُ في حارةٍ لا تعرف الإسفلت،
لكنها تعرف وقع أقدامنا حين نركض خلف كرةٍ من قماش، وتعرف صوت أمّي وهي تنادي من
الشرفة:
"ارجع…
الغدا صار باردًا". وتعرف كيف كنا
نُقسم أن فلسطين أقرب من المدرسة، وأن العودة ليست حلمًا، بل موعدًا مؤجلًا.
كانت الأزقة ضيقة، نعم، لكنها كانت
تتسع لنا جميعًا. تتسع لصوت الكرة وهي ترتطم بالجدار، لصوت أمّي وهي تنادي من
الشرفة، لصوت المؤذن الذي لا يُخطئ موعده، ولضحكاتنا التي كانت تُعلّق على الحيطان
كأنها زينة دائمة.
كنا نمرّ في الحارة، فينادي الجدار
باسمنا، وتبتسم الحجارة التي شهدت أولى خطواتنا، وأسرارنا الصغيرة، وضحكاتنا التي
كانت تُقاوم الحصار. كل زاوية كانت تعرفنا، تعرف من الذي كان يركض خلف الكرة، ومن
الذي كان يكتب الشعر على دفاتر المدرسة، ومن الذي كان يحلم بالعودة إلى صفد أو
حيفا أو المجدل.
في اليرموك، لم تكن البيوت تُغلق
بالمفاتيح. كانت تُغلق بالثقة. وكان الجيران يعرفون بعضهم كما يعرفون أبناءهم.
يعرفون متى نمرض، ومتى نفرح، ومتى نغيب. حين نمرض، يصل الحساء قبل أن نطلبه. وحين
ننجح في المدرسة، تُوزّع التهاني كما لو أننا فزنا بكأس العالم. لم يكن هناك ترف،
لكن كان هناك كرامة. لم يكن هناك وفرة، لكن كان هناك دفء. وكان هناك فلسطين، لا
بوصفها قضية، بل بوصفها ذاكرة حيّة، تُعلّق على الجدران، وتُروى في الحكايات، وتُغنّى
في الأعراس، وتُبكى في صمت الجدّات.
هناك، كانت رائحة الخبز تُوقظنا قبل
المدرسة، وكانت أغاني فيروز تُذاع من النوافذ، وكانت فلسطين تُعلّق على الجدران،
لا في نشرات الأخبار.
في أوروبا، كل شيء مرتب. الشوارع
نظيفة، والأنظمة واضحة، والناس لا يتدخلون في شؤون بعضهم. لكن لا أحد يعرفني حين
أقول "أنا من اليرموك". لا أحد يعرف أنني أحمل مدينةً في صدري، وأنني
حين أضحك، أضحك بلهجة فيها قليل من الشام، وقليل من الحنين، وكثير من الفقد. لا
أحد يعرف أنني حين أُعدّ القهوة، أُصالح بها ذاكرةً متعبة، وأنني حين أُغلق
النافذة، أُغلق على صوتٍ كان يأتي من مئذنةٍ في شارع فلسطين.
العودة إلى اليرموك: حين تصطدم
الذاكرة بالواقع
ما يمكن أن نضيّعه في العودة هو الوهم
الجميل بأن الأشياء ستبقى كما كانت. أن الحارة ستعرفنا، أن الجدران ستردّ السلام،
أن صوت المؤذن سيأتي من نفس المئذنة، وأن رائحة الخبز ستوقظنا كما كانت تفعل. لكن
الزمن لا ينتظر أحدًا، والمكان يتغيّر، حتى حين نحفظه في صدورنا كما هو.
لو عدتُ إلى اليرموك، فلن أعود كما
كنت. سأعود وفي داخلي مدنٌ أخرى، ولهجاتٌ أخرى، وأثقالٌ لا تُرى. سأعود وفي قلبي
ذلك الطفل الذي كان يركض في الأزقة الضيقة، يلهو بكرةٍ من قماش، ويضحك حين تناديه
أمّه من الشرفة: "ارجع، الغدا صار باردًا". سأعود وأنا أحمل صورًا لا
تُطبع، وأصواتًا لا تُسجّل، وحنينًا لا يُترجم.
سأبحث عن بيتنا، عن الباب الخشبي الذي
كانت جدّتي تُغلقه كل مساء، عن رائحة الخبز التي كانت تُوقظني قبل المدرسة، عن صوت
المؤذن الذي كان يُعلن بداية يومٍ جديد، لا فقط وقت الصلاة. لكنني أعرف أنني لن
أجد كل ذلك كما كان. لأن الزمن لا يُعيد نفسه، والمكان لا ينتظر أحدًا.
العودة إلى اليرموك ليست رحلة، بل
اختبار. اختبار للذاكرة، للهوية، للقدرة على مواجهة ما لم نكن نريد أن نراه. لكنها
أيضًا لحظة صدق، لحظة اعتراف بأننا ننتمي إلى مكانٍ لا يُقاس بالجغرافيا، بل
بالحب، وبالوجع، وبالقصص التي لا تنتهي.
ولو عدتُ، سأجلس على حجرٍ في زاويةٍ
من شارع الثلاثين، وسأُغمض عينيّ، وأُصغي إلى ما تبقّى منّي هناك. سأُصغي إلى صوتي
القديم، إلى ضحكتي الأولى، إلى وعدٍ لم يتحقق، لكنه لم يُكسر. وسأعرف أنني، مهما
ابتعدت، لم أغادر حقًا.
اليرموك لم يكن مخيماً، بل كان سرديةً
كاملةً عن الهوية، عن التشبث بالحياة رغم الخيبات، عن الحب الذي ينمو في ظلّ
الخوف، وعن الذاكرة التي لا تُغادر حتى حين يُغادر الجسد. حين تهجّرنا، لم نأخذ
معنا سوى صور الأزقة، وأسماء الجيران، ورائحة الخبز الساخن في الصباح، وصوت أمٍّ
تنادي أبناءها من الشرفة.
اليرموك هو الحنين الذي لا يُشفى، هو
الجرح الذي لا يُراد له أن يندمل، لأنه جرحٌ جميل، يحمل في طياته معنى الانتماء،
ومعنى المقاومة، ومعنى أن تكون فلسطينيًا في قلب الشتات، دون أن تفقد البوصلة.
ولو عدتُ، سأعود لا لأستعيد، بل
لأُصافح الغياب، وأقول له:أنا لم
أنسَ، ولم أُشف، ولم أُغادر حقًا.