العدد 1656 /19-3-2025
عبد الوهاب المرسي
بعد أكثر من خمسة عقود من إغلاق الحدود بين سوريا
والأراضي المحتلة في إسرائيل في أعقاب حرب عام 1973؛ دخل عشرات من رجال الدين من
طائفة الدروز السوريين إسرائيل يوم الجمعة الماضي 14 مارس/آذار، لأول مرة، في
زيارة لما يعتقدون أنه مقام النبي شعيب الذي يقع في بلدة جولس بالقرب من طبريا
داخل الأراضي المحتلة، والذي يُعتبر أحد أهم المواقع الدينية المقدسة عند الدروز.
على متن ثلاث حافلات ترافقها مركبات عسكرية، عبر
رجال الدين خط الهدنة في مجدل شمس في مرتفعات الجولان، وكانت الحافلات الثلاث قد
انطلقت من داخل الجولان السوري المحتل إلى بلدة حضر السورية عند الحدود لنقل مشايخ
الدروز، وسلكت طريقا عسكريا كان قد أقامه جيش الاحتلال بعد سقوط نظام الأسد.
جاءت الزيارة بناءً على دعوة من الزعيم الروحي
للطائفة الدرزية في إسرائيل، موفق طريف، وبدا في تفاصيلها أنها جرت بتنسيق وحفاوة
بالغة من قبل سلطات الاحتلال.
ومع أن الزيارة قد قوبلت بردود غاضبة من قبل أصوات
درزية، داخل سوريا وخارجها، فإنها جاءت ضمن سياق محاولات إسرائيلية أوسع لاستقطاب
الطائفة الدرزية والتعاون معها ضد سلطة دمشق الجديدة؛ مما يعطيها بعدا غاية في
الأهمية.
وكان تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية قد
قال مؤخرا، إن إسرائيل تسعى إلى إقناع دروز سوريا برفض الحكومة الجديدة في دمشق
والمطالبة بحكم ذاتي ضمن نظام فدرالي، وإنها تخطط لإنفاق أكثر من مليار دولار
لتحقيق هذه الغاية.
إذن؛ تبدو سوريا، شرقا وجنوبا وغربا، طافية على
توترات ليس من السهل احتواؤها، حيث تواجه قدرها التاريخي الذي يجمع تناقضات المشرق
العربي داخل حيز جغرافي ضيق لم تصنعه تفاعلات تاريخية واجتماعية طبيعية، فإلى أي
وجهة سوف يحسم الدروز طريقهم في هذا المزيج المعقد؟
كيف بدأ الدروز؟.. رحلة عشرة قرون!
في منطقة جبلية صغيرة من بلاد الشام، تمتد جنوب
غرب سوريا وجنوب لبنان وشمال إسرائيل، يعيش حوالي مليون ونصف مليون درزي، يُطلقون
على أنفسهم اسم "الموحدون".
هذه الطائفة الدينية والاجتماعية، التي لا يعرفها
الغرباء، ولا يفهم معتقدها حتى أغلب أتباعها، تُشكل أقلية صغيرة وإن كانت ذات
أهمية سياسية بالغة، حيث شاركت بفعالية وحضور في كافة محطات تأسيس المشرق العربي
الحديث.
وفي عام 1936، وحّدت فرنسا سوريا على صورتها
الحالية، ودمجت فيها دولة جبل الدروز، بموجب ما يعرف بمعاهدة الاستقلال. لكن
الانتداب الفرنسي استمر في سوريا فعليًّا حتى أبريل/نيسان 1946.
في عام 1954، شنّ الزعيم السوري أديب الشيشكلي،
الذي استولى على السلطة بانقلاب عام 1949، حملة دموية ضد الدروز متهما إياهم بتلقي
أسلحة ودعم عسكري من الهاشميين في العراق والأردن.
في عام 1966 أوصل انقلاب ناجح ثلاثة ضباط -اثنان
منهم علويان والآخر درزي- إلى السلطة. وقبل نهاية العام، قام العلويان -قائد
القوات الجوية البعثي اليميني حافظ الأسد، والجنرال البعثي اليساري صلاح جديد–
بإقصاء الضابط الدرزي سليم الحاطوم في انقلاب آخر.
لم يثق حافظ الأسد بالدروز؛ مما أدى إلى تقليص
مساحة محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية من 11 ألف كيلومتر مربع إلى 6 آلاف
كيلومتر مربع، وعزلها عن العالم الخارجي، ودخل الدروز بشكل عام في علاقة مع دولة
الأسد مفادها حماية الطائفة مقابل الإذعان لسلطة الدولة.
وفي العام الأخير من حكم بشار الأسد، بدأ الدروز
انتفاضة ضد تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وبعد تدشين فصائل إدلب معركة ردع
العدوان، شاركت فصائل السويداء، وفقا لوكالة الأناضول، في تأسيس غرفات عمليات
الجنوب التي ضمت فصائل درزية وأخرى من محافظات درعا والقنيطرة، واستطاعت طرد قوات
الأسد من المحافظات الثلاث، ثم الانطلاق إلى دمشق حيث دخلتها فصائل غرفة عمليات
الجنوب قبل أن تصل إليها الفصائل التي كان يقودها أحمد الشرع.
حيرة الدروز التاريخية
مع أن السؤال المطروح على الدروز حاليا بشأن
العلاقة مع السلطة المركزية في سوريا يبدو سؤلا جديدا؛ فإن الحقيقة أن الدروز
بوصفهم طائفة أقلية، لا يزال هذا أحد أسئلتهم المركزية منذ نشأة المشرق الحديث.
يعيش الدروز اليوم ضمن حدود ثلاث دول، سوريا
ولبنان والأراضي المحتلة، إلى جانب أعداد قليلة في الأردن هاجرت إليه بعد نشوب
الصراع بين الدروز في السويداء وسلطات الانتداب الفرنسي مطلع القرن العشرين.
كيف هي السويداء اليوم؟
أظهرت تداعيات ما بعد سقوط الأسد انقسامات داخل
مجتمع الدروز في السويداء بين مؤيدي الفدرالية والمطالبين بوحدة سوريا، وهو انقسام
شمل المرجعيات الدينية والتيارات السياسية والفصائل المسلحة.
تُعد "حركة رجال الكرامة" الفصيل الأبرز
في السويداء، وقد تأسست عام 2013 بقيادة الشيخ وحيد البلعوس، في إطار معارضة تجنيد
الشبان الدروز ورفض مشاركتهم في الحرب السورية، ورفع مؤسس الحركة حينها شعار
"دم السوري على السوري حرام"، إضافة إلى حماية الدروز من الاعتقالات،
والضغط لأجل الإفراج عن المعتقلين.
ورغم اغتياله عام 2015، استمرت الحركة في دورها
الرافض للهيمنة الأمنية لنظام الأسد، وقامت تحت قيادة الشيخ يحيى الحجار بعد 2017
بتعزيز نفوذها في المنطقة، متبنيةً خطابًا يركز على الدفاع عن الهوية الدرزية
والاستقلالية المحلية.
وحاليا تتراوح مواقف الفصائل في السويداء من
الحكومة الجديدة بين ثلاثة توجهات رئيسية. الأول، هو الرفض القاطع لسلطة الحكومة
والسعي إلى إعادة هيكلة الحكم في سوريا وفق نظام فدرالي يمنح السويداء استقلالًا
إداريًّا واسعًا.
ويعد "المجلس العسكري في السويداء" أحد
أبرز الفصائل التي تبنت هذا التوجه، وقد تأسس في يناير/كانون الثاني 2025 بقيادة
طارق الشوفي، وهو ناشط سياسي معروف بمواقفه الداعمة للفدرالية، ومعه العميد سامر
الشعراني، الذي كان سابقًا أحد ضباط الجيش السوري قبل انشقاقه في 2018.
أما الموقف الثاني، فقد تبنته الفصائل التي ترى
ضرورة التعامل بحذر مع الحكومة الجديدة، مع وضع شروط تضمن عدم تكرار هيمنة دمشق
على السويداء.
ومن بين هذه الفصائل "رجال الكرامة"،
حيث تتبنى الحركة موقفًا يعتمد على الحفاظ على خصوصية المحافظة مع قبول التنسيق
الأمني والعسكري مع دمشق، بشرط أن يكون تحت إدارة أبناء السويداء أنفسهم.
والثالث؛ هو القبول بسلطة دمشق بشرط أن لا يجري
تسليم السلاح إلا بعد الاطمئنان لهيكلة وزارة الدفاع الجديدة، والدستور الجديد
الذي يضمن مدنية الدولة وحقوق الأقليات، فضلا عن استبعاد العناصر الأجنبية من
الوزارة، مثل موقف لواء الجبل.
وقد أفضت المفاوضات بين غرفة العمليات المشتركة في
السويداء والحكومة إلى اتفاق يسمح بانضمام أبناء المحافظة إلى قوى الأمن الداخلي،
على أن يكونوا من غير أصحاب السوابق الجنائية. وبناءً على ذلك، أرسلت وزارة الداخلية
تسع سيارات شرطة إلى السويداء في السادس من مارس/آذار 2025، إلا أن "المجلس
العسكري" حال دون دخولها.
وجاء ذلك بالتزامن مع مظاهرات دعا إليها
"تيار سوريا الفدرالي"، رفعت شعارات تطالب بإسقاط النظام، وأعلنت دعمها
للشيخ حكمت الهجري والشيخ موفق طريف، وهو ما زاد من تعقيد المشهد الأمني والسياسي
في المدينة.
وإلى جانب الفصائل العسكرية؛ تباينت مواقف
المرجعيات الدينية الثلاث الأبرز في السويداء (حكمت الهجري، حمود الحناوي، ويوسف
الجربوع)، ليس فقط من سلطة الشرع، بل من سلطة الأسد قبل ذلك منذ عام 2022، حيث ظهر
اختلاف واضح في درجة المواجهة أو التقارب مع السلطة.
وعلى الجانب الآخر؛ فإن أمام سلطة دمشق اختبار
تاريخي لجمع شتات البلد الذي لم يكن تاريخه الحديث مستقرا في أغلب أوقاته.
وبعيدا عن الترتيبات الإدارية والاتفاقات السياسية
التي قد يكون عمرها قصيرا؛ فإن التحدي الأكبر هو مدى قدرة السوريين على بناء عقد
اجتماعي وترسيخ هوية وطنية تجمع هذا المزيج المعقد الذي يمثل الدروز واحدا من
تكويناته التاريخية، بما يمثل ضمانة للأمن المجتمعي وإغلاقاً لفرص التدخلات
الخارجية.