العدد 1677 /20-8-2025
يُعَدّ كبار السنّ من
الفئات الهشّة في النزاعات والأزمات، فيلحق بهم ضرر مضاعف مقارنة بسواهم. ووسط
الحرب التي تمضي بها إسرائيل في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023،
تبدو معاناة هؤلاء هائلة.
بعد مرور أكثر من 22
شهراً من الحرب الإسرائيلية المدمّرة على قطاع غزة المحاصر، تأتي عملية التجويع
الممنهجة التي يرتكبها الاحتلال بحق الفلسطينيين فيه لتزيد صعوبة عيش كبار السنّ
وتفاقم أحوالهم الصحية وغيرها. إلى جانب ما يعانيه كبار سنّ غزة في ظلّ التهجير
وانقطاع الأدوية ومستلزمات الحياة الأساسية وعدم توفّر الرعاية الخاصة بهم وسط
تدهور الأوضاع الإنسانية في القطاع، راحت ترتفع نسبة المصابين بسوء التغذية من
بينهم، شأنهم في ذلك شأن سواهم من الفئات الهشّة، مثل الأطفال والأشخاص ذوي
الإعاقة والنساء الحوامل والمرضعات.
وتظهر على الأجساد
التي أنهكتها السنون أعراض إنهاك من نوع آخر، فهؤلاء الفلسطينيون كبار السنّ غير
قادرين على الحصول على ما يحتاجون إليه من غذاء، في حين تراجعت حركتهم وأثّرت
حرارة الصيف عليهم، خصوصاً في مخيمات النزوح ومراكز الإيواء التي تفتقر إلى أدنى
مقوّمات الحياة. يأتي ذلك في ظلّ تشديد الاحتلال الإسرائيلي حصاره على قطاع غزة
المستهدف، ومنع إدخال ما يكفي من إمدادات إنسانية، غذائية ودوائية وغيرها، من
بينها ما هو منقذ للحياة.
وتفيد مصادر
"العربي الجديد" بأنّ أكثر من 4.500 من كبار السنّ في قطاع غزة قضوا في
خلال الحرب نتيجة المرض والتجويع، علماً أنّ 446 وفاة سُجّلت في نهاية عام 2023،
تُضاف إليها 2.226 وفاة في عام 2024، وأكثر من 1.830 وفاة منذ بداية عام 2025.
تضيف المصادر أنّ نحو 4.500 آخرين من كبار في السنّ استشهدوا في خلال الحرب،
وبالتالي فإنّ أكثر من 9.000 من الفلسطينيين كبار السنّ توفّوا أو استشهدوا منذ
السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ما يمثّل 7% من إجمالي عدد الشهداء الذي يفوق
61 ألف شهيد.
هيكل عظمي
العمّ سليم عصفور من
كبار السنّ الذين كسرتهم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة كما العمر، فتحوّل إلى
هيكل عظمي نتيجة التجويع، إذ اضطرّ أحياناً إلى البقاء من دون كسرة خبز على مدى
أيام. وها هو طريح الفراش، لا يقوى على المشي، فيما برزت عظام ظهره وقفصه الصدري،
وتراجع وزنه من 75 كيلوغراماً إلى 40 فقط. يُذكر أنّ تدهور صحة العمّ سليم حصل في
خلال أربعة أشهر فقط، بعد تحوّل التجويع إلى عملية ممنهجة في قطاع غزة عقب إحكام
الاحتلال حصاره في الثاني من مارس/ آذار الماضي، الأمر الذي أدّى إلى نفاد الطعام
والدواء.
وقبل هذه الانتكاسة
الصحية، لم يكن العمّ سليم يشكو من أيّ أمراض، وهو كان يملك أراضي زراعية ومحال
تجارية في بلدة عبسان الكبيرة، جنوب شرقي محافظة خانيونس الواقعة جنوبي القطاع،
لكنّ آلة الحرب الإسرائيلية دُمّرتها كلها فاضطرّ بالتالي للنزوح إلى مخيمات في
مواصي خانيونس. ويقول العمّ سليم المنهك لـ"العربي الجديد": "جعنا،
وتألمنا، ومرّت علينا أيام من دون أن نأكل لم نجد فيها حتى رغيف خبز واحداً.
وعندما كنّا نطبخ، كان معظم ما نحضّره مياهاً وعدساً. وذلك لا يشبع، وكنت بالكاد
أحصل على كأس من شوربة العدس"، ويؤكد "عشنا بلا مقوّمات حياة".
قبل الشهور الأربعة
الأخيرة، كانت حال العمّ سليم الصحية جيدة، فهو كان قادراً على المشي وحتى الهرولة
وكان جسده ممتلئاً. لكنّه، مع قلة الغذاء والطحين وعدم توفّر المال، لم يستطع
مواجهة التجويع، فذاب جسده لدرجة أنّه لم يعد يقوى على الحركة. ومع تدهور حالته،
صارت زوجته، المصابة بمرض السرطان، هي التي تبحث عن طعام. وتخبر الزوجة "العربي
الجديد" بأنّه "منذ أربعة أشهر، راح نظره يتراجع، وصار يقضي كثيراً من
وقته نائماً. لا نستطيع شراء الدقيق، لذا رحنا نعتمد على الدقّة والعدس".
تضيف: "نعيش وسط ظروف صعبة، ولا نستطيع شراء السلع (إن توفّرت)، فأسعارها
باهظة". وإلى جانب التجويع، تؤثّر ظروف مخيم النزوح على حياة العمّ سليم،
فالذباب يملأ خيمته ما ينغّص حياته.
على قائمة ضحايا
التجويع
من جهته، يستلقي شحدة
الهندي البالغ من العمر 85 عاماً على أحد أسرّة مركز الوفاء لرعاية المسنّين
بمدينة غزة، شمالي القطاع، بعدما استحال جسده أشبه بهيكل عظمي، إذ برزت عظامه
كأنّما هو ينتظر دوره على قائمة الموتى بسبب التجويع. وتدهورت حاله الصحية، إذ لم
يعد يتوفّر له الطعام الجيد ولا الحليب ولا الألبان ولا اللحوم، وسط الحصار
المشدّد على غزة وسياسة التجويع الإسرائيلية. يُذكر أنّه كان قبل ذلك يتجوّل
بمفرده في ممرّات المركز، أمّا اليوم فلم يعد قادراً حتى على التقلّب يميناً
ويساراً؛ صار جسده أشبه بلوح خشبي وكأنّما هو يلفظ أنفاسه ببطء.
تجدر الإشارة إلى أنّ
نحو 20 من كبار السنّ يستقرّون في مركز الوفاء لرعاية المسنّين بمدينة غزة، وهؤلاء
لا أبناء ولا زوجات لهم. أمّا في قطاع غزة فثمّة 170 ألفاً من كبار السنّ يعيشون
وسط ظروف صحية صعبة نتيجة التجويع والحرب، علماً أنّ الأوضاع تتفاقم في مخيمات
النزوح.
في قسم النساء بمركز
الوفاء لرعاية المسنّين، بالكاد تستطيع مسرة أبو عاصي السير أمتاراً قليلة
وبصعوبة، بعد جلوسها مع أفراد من الطاقم الطبي في أحد الممرّات. وعلى الرغم من
المسافة القصيرة، فإنّ كبار السنّ هنا يجتازونها ببطء شديد، نتيجة وهن أجسادهم
وضعفها. وتخبر مسرة "العربي الجديد": "يُقدَّم لنا قليل من الطعام،
وقليل من الخبز. نحن في حالة موت"، وتفصح عن أمنيتها "أن أرى الدنيا في
الخارج". هي لا تعلم حجم الدمار الذي أصاب مدينة غزة والقطاع عموماً، فهي
خرجت قبل عامَين في آخر مشوار لها، وذلك في زيارة ترفيهية لأحد المنتجعات السياحية
التي دمّرتها الحرب.
في غرفة أخرى بمركز
الوفاء، كانت ممرّضة تساعد الحاجة منوّر مصبح البالغة من العمر 83 عاماً على إسناد
ظهرها، علماً أنّها أودعت في دار المسنّين هذه بعد فشل محاولات سفرها إلى خارج
قطاع غزة لملاقاة ابنها، وتشرّد أبناء شقيقها الذين كانت تعيش معهم، وعدم قدرتها
على العيش في مخيمات النزوح. تقول منوّر لـ"العربي الجديد": "أحتاج
إلى طعام طريّ، لذا أتناول رغيف خبز مع كأس من الشاي"، مؤكدة أنّ هذا طعامها
وسط سياسة التجويع القائمة. تضيف: "قبل أشهر، كنت في صحة أفضل وأستطيع المشي
والوقوف، أمّا اليوم فهذا صعب؛ لا أتنقّل إلا بواسطة كرسي متحرّك وتساعدني
الممرّضة بسبب ضعف جسدي".
محاولة لحماية كبار
السنّ في غزة
في الإطار نفسه، يفيد
رئيس قسم المسنّين لدى مركز الوفاء بمدينة غزة أشرف حمادة "العربي
الجديد"، بأنّهم يستقبلون "من لا أبناء لهم من كبار السنّ الذين تقطّعت
بهم السبل ويحتاجون إلى رعاية واهتمام". يضيف أنّهم يتلقّون "طلبات من
عائلات لاستقبال مسنّين في المركز بسبب تعرّضهم لانتكاسات وأوضاع صحية صعبة نتيجة
العيش في الخيام التي لا يتحمّلها هؤلاء". ويوضح حمادة قائلاً: "نحاول
حماية كبار السنّ من براثن الجوع والوضع الاقتصادي الصعب الذي يمر به شعبنا، وهم
في حاجة إلى طعام صحي وفي حاجة أيضاً إلى دواء".
وعلى الرغم من أنّ
النظام الغذائي المطلوب يتضمّن خضروات وفواكه وبيضاً وألباناً ولحوماً، فإنّ سياسة
التجويع الإسرائيلية تجبر طواقم الرعاية على إعداد ما يتوفّر من طعام في القطاع.
ويقول رئيس قسم المسنّين لدى مركز الوفاء إنّ ما يتوفّر في غزة بمعظمه هو عدس أو
أرزّ أو بعض الحساء، مؤكداً أنّ "النقص الكبير في الغذاء والدواء أثّر سلباً
على صحة كبار السنّ وحياتهم". ويشرح أنّ هؤلاء "أُصيبوا بضمور في
العضلات وترهّل في الجسد، واعتلال في البنية الجسدية، ولم يعودوا قادرين على
الحراك، وصاروا يلجأون إلى النوم لساعات طويلة، الأمر الذي أفقدهم كثيراً من
أوزانهم وحواسهم".
ويبيّن حمادة أنّ 15
فلسطينياً من كبار السنّ توفوا في مركز الوفاء لرعاية المسنّين بمدينة غزة خلال
الحرب الأخيرة، إلى جانب خمسة آخرين قضوا بسبب التجويع، في حين يهدّد خطر الموت 20
آخرين من كبار السنّ في المركز على خلفية عدم توفّر الطعام والدواء.
مأساة مضاعفة في
مخيمات النزوح
في سياق متصل، تتفاقم
مأساة كبار سنّ غزة في مخيمات النزوح ومراكز الإيواء، إذ لا يستطيعون التأقلم مع
الواقع الجديد الذي يملأه الذباب والحشرات، وسط درجات حرارة مرتفعة في الصيف
وانخفاض كبير بها في الشتاء، ويُضاف إلى كلّ ذلك التجويع المتعمّد.
في مخيم نزوح يقع في
نطاق مخيم الشاطئ للاجئين، غربي مدينة غزة، يجلس الحاج نبيل عبد الله الكفارنة مع
زوجته وابنتَيه، في حين يمرّ الناس من أمامهم صوب حاجز "زيكيم"، تلك
النقطة التي تشهد تدافعاً كبيراً بين المستولين على مساعدات الشاحنات. أمّا هو فيتفرّج
على ما يجري لعدم قدرته على الحركة، علماً أنّه يستطيع بصعوبة توفير الطحين، وفي
أحسن الأحوال يتناول رغيف خبز يومياً. وكان الحاج نبيل قد وصل إلى مخيم النزوح بعد
رحلة تهجير طويلة قطعها، بدأت من بيت حانون، أقصى شمالي القطاع، مروراً بمخيم
النصيرات في دير البلح، وسط القطاع، ثمّ بمدينتَي خانيونس ورفح جنوباً، قبل العودة
إلى الشمال، ويشكو من حمله الثقيل، مشيراً إلى أنّ معاناته تزيد لعدم وجود أبناء
ذكور لديه.