العدد 1680 /10-9-2025
حسان الأسود
تتسارع
منذ سقوط نظام الأسد نهاية عام 2024 دعوات التقسيم في سورية، وتتزايد معها حدّة
الخطاب الديني والطائفي بين مسيحيين ومسلمين وبين سنّة ودروز وعلويين، والقومي بين
عرب وكرد وغيرهما. باتت بعض الدعوات علنية ومتكرّرة ومرتبطةً بشكل مباشر مع
إسرائيل، فالأخيرة التي أعلنت أنها ستحمي دروز جرمانا إعلاميّاً قصفت فعليّاً قوات
سورية تابعة لوزارة الدفاع وللأمن العام وقوات من العشائر على حدود السويداء،
وأعلنت أنّها ستطبّق هذه السياسة كلّما تهدّد دروزَ السويداء خطرٌ مماثل. بل أكثر
من ذلك، تخوض إسرائيل محادثاتٍ سياسية عبر وزير شؤونها الاستراتيجية رون ديرمر، مع
سورية الممثلة بوزير خارجيتها أسعد الشيباني، لتثبيت حدود سلطة القوى الدرزية في
السويداء بزعامة الشيخ حكمت الهجري. ويمكن قراءة هذا الأمر بشكل معاكس، أنّه تحديد
لسلطة دمشق في الجنوب السوري كلّه من بوابة السويداء.
قبل
عدّة أيام، قصف الطيران المسيّر الإسرائيلي قوّة سورية اكتشفت أجهزة تنصّت مزروعة
قرب جبل المانع، جنوب العاصمة دمشق، وقد أعلنت وزارة الدفاع السورية استشهاد ستة
عناصر في القصف، وأنها تمكّنت من إخلاء الجثث في اليوم التالي. ويبيّن هذا الخبر
مع غيره من الأخبار التي تفيد بتنفيذ عمليات سحب ما تبقّى من سلاح ثقيل في مناطق
حوران الحدود الجغرافية التي ترسمها جلسات التفاوض السورية الإسرائيلية. من يعرف
جبل المانع، الواقع بين طريقي درعا دمشق والسويداء دمشق، يدرك أنّه نقطة
استراتيجية منها يمكن فصل الجنوب عن سورية كليّاً. تبعت عمليات حلّ المركزيات وما
تبقّى من فصائل الجيش السوري الحرّ، مثل اللواء الثامن في حوران، حالة انفلات
أمنيّ كبيرة. عمليات الاغتيال التي تجاوزت حدودها المعتادة أيام نظام الأسد المخلوع
تثير علامات استفهامٍ كبرى، فقد كانت أجهزة النظام تدير تلك العمليات لجعل المنطقة
تحت الضغط المستمرّ والسيطرة المباشرة. أمّا الآن فيبدو الأمر مقلقاً لناحية غياب
الضبط من أي نوعٍ كان. هدف استهداف الثوّار الأوائل والنشطاء المدنيين والسياسيين
هدفه إفراغ المنطقة من كوادرها القادرة على إدارة شؤونها. حسب إحصائية أخيرة، فإنّ
95 قتيلاً سقطوا منذ بداية العام الجاري (2025)، من بين 291 عملية اغتيال جرى
تنفيذها، وكان آخرها استهداف القائد الميداني منيف قدّاح (الزعيم) في مركز محافظة
درعا، واغتيال القائد المدني محمد الهويدي في منزله في مدينة معربة، شرق درعا،
سبقهما اغتيال السفير المنشق نور الدين اللباد في مدينة الصنمين.
لم
تكن السويداء وحدها التي أعلنت بعضُ القوى فيها عن تشكيل إدارة محلية تحت مسمّيات
مختلفة، فقد أعلنت مجموعة من السياسيين السوريين من الطائفة العلوية عن تشكيل ما
سُمّي "المجلس السياسي لوسط وغرب سورية"، والذي ضمّ حسب الإعلان كلاً من
حمص وريف حماة والساحل السوري وسهل الغاب. استند مؤسّسو المجلس إلى المرجعية
الدولية المتمثلة بقرار مجلس الأمن 2254 التي تتحدّث بالجوهر عن حل سياسيٍ شاملٍ
وغير طائفي في سورية، لكنّها تستذكر في المقابل التجارب المماثلة لما حدث في حيي
الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، ولمناطق الأقليات المتفرقة في دمشق وسواها، والتي
وصفتها بالناجحة.
هذه
الوصفة التي عبّر عنها إعلان التأسيس بقوله: "على رغم الانطلاق من المكوّن
العلوي كبداية فرضها الشقاق الذي قادته سلطة الأمر الواقع، لكن ستتم المشاركة في
الخطوة التالية مع باقي المكونات المحلية، ثم يمكن الاتفاق مع باقي مكونات سورية
على الشكل النهائي لشكل وإدارة نظام الحكم في كامل سورية". هذه المبادرة التي
استلهمت تجربتي مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرقي سورية والسويداء، جنوب غربها،
لم تأت من فراغ. بل هي حصيلةٌ طبيعيةٌ ونتاجٌ متوقّعٌ لصراع استمرّ 14 سنة مريرة
خاضها السوريون في ما بينهم، الجديد فيها أنّها باتت تعلن عن وجهها الطائفي بوضوح.
بالتدقيق
في ما تتناقله مصادر كثيرة من داخل المنطقة الوسطى في سورية، نجد عمليات تهجير
للسكان وتغيير ديمغرافي بطيئة وغير معلنة، لكنها متواترة وكأنها ممنهجة بطريقةٍ
تدعم عمليات ترسيم الحدود المعلن عنها في مشروع المجلس المذكور أعلاه. على سبيل
المثال، لدينا في منطقة حمص قرية اسمها تسنين تتبع ناحية الرستن، وفي محافظة إدلب
قرية تدعى البويضة على الحدود الإدارية لناحية الحمراء. وفي محافظة حماة، لدينا في
ناحية الحمراء قرى العزيزية، البليل والزغبة، وفي ناحية صوران لدينا قرى قصر أبو
سميرة، طليسية، معان، وفي ناحية مركز حماة، هناك قرى المبطن، أبو منسف، مريود،
أرزة، كفر الطون، متنين وغور العاصي (جاري التهجير منها). أمّا في ناحية حرّ
بنفسه، فلدينا قرى موسى، الحولة والزارة، وفي منطقة سلمية نجد أيضاً ناحية مركز
سلمية - سباع، نوى، ذهب، حلبان، الطوبة وفان الوسطاني. جميع هذه القرى تجري فيها
عمليات دهم واعتقال وتضييق تشارك فيها قوى مختلفة، يُقال إنّ بعضها من عشائر البدو
وبعضها من قوى نظامية تتبع للأمن العام والجيش. يهاجر العلويون من هذه القرى نحو
مناطق الساحل الداخلية، يبيع بعضهم أملاكهم وبعضهم يتركها ببساطة. وتشير خريطة هذه
المناطق الجغرافية إلى حدود يتم رسمها بأناة ومن دون كبير ضجّة.
على
صعيد آخر، تذكُر تقارير مختلفة أنّ الإدارة الذاتية لشمال سورية وشرقها تميّز،
بشكل واضح، في عمليات الإنفاق والتنمية بين القرى والمناطق العربية، وتلك التي
تقطنها أغلبية كردية، قد تطاول هذه التقارير بعض المبالغة أو المغالاة، لكنّها
تبقى، في النهاية، قضايا واردة ضمن سياق الاصطفاف القومي والديني والطائفي، ليس
فقط الواضح، بل والجاري تثبيته وتعزيزه بخطاب إعلامي عبر وسائل التواصل الاجتماعي،
وتشارك فيه، مع شديد الأسف، حتى القنوات الرسمية للحكومة الانتقالية.
بالتدقيق في ما تتناقله مصادر كثيرة من داخل
المنطقة الوسطى في سورية، نجد عمليات تهجير للسكان وتغيير ديمغرافي بطيئة وغير
معلنة
من
باب التذكير بأنّ الموضوع ليس مجرّد مؤامرة في خيالنا سنورد مقطعاً من مقالة
بعنوان "Greater Israel: an Ongoing Expansion Plan for
the Middle East and North Africa"،
نشرها موقع "Meddal East Political and Economic
Institute"
في الثاني من سبتمبر/ أيلول الجاري، يقول فيه الكاتب: "في مقال عام 1982
بعنوان "استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات" بقلم عوديد ينون (Yinon & Shahak, 1982)،
نوقشت مزيد من الأفكار الجيوسياسية المتعلقة بالمنطقة، بما يتماشى مع موقف إسرائيل
وصراعاتها مع جيرانها... إنها ورقة بحثية عن الحرب في الأساس. بعد عرض جوانب
التنوّع المختلفة للمجتمعات العربية على نطاق واسع، وكان بعضها عالميّاً لقرون،
بما في ذلك الجزائر ومصر ولبنان وسورية والسعودية والعراق، تبدأ
"الخطّة" في تقديم سيناريوهات "لحلّ" هذه البلدان على أسس
دينية أو عرقية: "دولة قبطية مسيحية" في مصر، والتي قد تؤدّي إلى
"سقوط مصر وتفكّكها"، ما يؤدّي إلى سقوط ليبيا والسودان. يذكر المقال
أيضاً: "التفكّك الكامل للبنان إلى خمس مقاطعات يمثل سابقة للعالم العربي
بأكمله، بما في ذلك مصر وسورية والعراق وشبه الجزيرة العربية، وهو يتبع هذا المسار
بالفعل. تفكيك سورية والعراق لاحقاً إلى مناطق عرقية أو دينية فريدة كما هو الحال
في لبنان، هو الهدف الأساسي لإسرائيل على الجبهة الشرقية على المدى الطويل، في حين
أن تفكيك القوة العسكرية لتلك الدول يمثل الهدف الأساسي على المدى القصير. سوف
تتفكك سورية، وفقاً لتركيبتها العرقية والدينية، إلى عدة دويلات كما هو الحال في
لبنان اليوم، بحيث تكون هناك دولة علوية شيعية على طول ساحلها، وأخرى سنّية في
منطقة حلب، ودولة سنّية أخرى في دمشق معادية لجارتها الشمالية، والدروز الذين
سيقيمون دولة، ربما حتى في الجولان التابع لنا، وبالتأكيد في حوران وشمال الأردن.
وستكون هذه الحالة الضمان للسلام والأمن في المنطقة على المدى الطويل، وهذا الهدف
أصبح في متناولنا اليوم بالفعل".
أين
تذهب سورية في هذا اليمّ المتلاطم، وهل بات قرْع جرس الإنذار من التقسيم فعلاً
نافلاً لا قيمة له، أم لا يزال الأوان متاحاً لمنع هذا العمل من النجاح؟ ما هي
الجهات المسؤولة عن هذه الأفعال التي أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها خيانة بواح
لكل القيم وهدرٌ لكل التضحيات الجسيمة التي قدّمها الشعب على مذبح الحريّة؟ هل
تدري السلطات السياسية في الحكومة الانتقالية خطورة ما يجري، أم أنها مشاركة فيه؟
وهل يجوز السكوت عن هذا أم أنّ السكوت مشاركة كاملة ومباشرة في الجريمة؟ كل هذه
الأسئلة برسمنا جميعاً الإجابة عنها.