العدد 1666 /4-6-2025
هشام جعفر
شكّل
إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب المفاجئ في الرياض يوم 13 مايو/ أيار
الماضي، عن نيّته رفع العقوبات المفروضة على سوريا، إحدى أكثر اللحظات لفتًا
للانتباه خلال زيارته للخليج.
وفي
اليوم التالي، التقى الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، وصافحه، وذلك على الرغم من
أن الأخير كان قد حارب القوات الأميركية في العراق.
أوضح
ترامب أن قراره جاء استجابة لطلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان،
والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. دعمت قطر هذا التوجّه بشدة، بحكم أنها ساندت
"الحكم الجديد" من اليوم الأول، وترى في نفسها شريكًا اقتصاديًا
واستثماريًا قويًا له.
تسببت
هذه الخطوة في صدمة لدى إسرائيل، التي توصف بأنها الحليف الأقرب تقليديًا للولايات
المتحدة في الشرق الأوسط، والتي تدفع باتجاه تقسيم سوريا إلى "دويلات مذهبية
وإثنية متناحرة". بيدَ أن ترامب اختار الانحياز إلى رؤية الدول الثلاث التي
تؤمن بأن إعادة إعمار سوريا ضرورة لاستقرار الشرق الأوسط، وأنها ستفتح آفاقًا
واسعة للتجارة والاستثمار.
حث
ترامب الرئيس السوري على الانضمام إلى الاتفاقيات الأبراهامية التي ترسي علاقات
دبلوماسية مع إسرائيل، وتطهير سوريا من "الإرهابيين الأجانب"، وترحيل
"المقاتلين الفلسطينيين". ولم يتطرق إلى حماية الأقليات أو بناء
المؤسسات الديمقراطية السورية. من جانبه، أعلن الشرع قبوله اتفاقية فك الارتباط
لعام 1974 التي أقامت منطقة عازلة بين إسرائيل وسوريا، ودعا الشركات الأميركية إلى
الاستثمار في النفط والغاز السوريين.
مجمل
هذا المشهد قد يطلق ديناميات إقليمية جديدة لن تقتصر فحسب على "إعادة تأهيل
سوريا كدولة موحدة ومستقرة، ضمن توازنات ترعاها قوى إقليمية وازنة" – كما ذكر
محمد سرميني في مقاله "اللحظة التي غيرت ترامب تجاه سوريا" على الجزيرة
نت.
غير
أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن هذه الاتجاهات قد لا تأخذ في الغالب مسارًا
متبلورًا يسير في اتجاه محدد؛ إذ ربما تأخذ مسارًا حلزونيًا متعرجًا بحكم كثرة
الفاعلين، وتداخل العوامل، وتعقيد الدوافع والأهداف والمصالح، وهو ما أطلق عليه
التحليل الشبكي في مقابل التحليل النظمي. ما يحسن التأكيد عليه -إذن- هو أننا لسنا
على الأقل حتى الآن بصدد نظام إقليمي في المنطقة برزت اتجاهاتُه الأساسية وفاعلوه
الرئيسيون، وتبلورت خصائصه وسماته.
توجهات
ثمانية رئيسية
وعلى
الرغم من ذلك، يمكن رصد بعض هذه التوجهات استنادًا إلى الحالة السورية التي تظل
مفتوحة على احتمالات متعددة. واكتفي في هذا المقال بالرصد دون تقييم المعضلات التي
تواجه هذه الديناميات الثماني، والذي أرجو أن أصرف فيه جهدًا آخر.
أولًا:
الاقتصاد كقوة استقرار إقليمية
وفقًا
لهذه الرؤية، يُنظر إلى التدابير الاقتصادية، وعلى رأسها تخفيف العقوبات
والاستثمار والمساعدات وجهود إعادة الإعمار، من قبل مختلف الأطراف الفاعلة (قادة
الخليج والإدارة الأميركية) باعتبارها أدوات قادرة على تعزيز الاستقرار في المناطق
الخارجة من الصراعات، مثل سوريا، وربما تساهم في التخفيف من حدة الأزمات في غزة
واليمن، فضلًا عن خدمة المصالح الإستراتيجية الأوسع للولايات المتحدة ودول الخليج.
وفق
هذه الرؤية، يُعد التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار ضروريين لتحقيق الاستقرار في
سوريا بعد سنوات الحرب الأهلية. وتُشكل العقوبات عائقًا رئيسيًا أمام جهود إعادة
الإعمار والمساعدات الإنسانية والتعافي الاقتصادي، إذ إنها تضر بالدرجة الأولى
بالمدنيين السوريين.
ومن
المتوقع أن يمهد رفع العقوبات الطريق أمام تدفق المساعدات والاستثمارات والخبرات
الإقليمية والدولية لدعم "الحكومة الجديدة" في جهودها لإعادة بناء
البلاد ومنع عدم الاستقرار السياسي. ويُعتبر وجود اقتصاد قوي أمرًا حيويًا لنجاح
"الحكومة السورية الجديدة" في تحقيق الاستقرار.
وبحسب
التقديرات، سيظل الاقتصاد السوري في حالة تدهور مستمر ما لم يتم تخفيف العقوبات،
الأمر الذي سيزيد من الاعتماد على روسيا والصين وإيران. كما أن ازدهار سوريا
سيساهم في الحد من تدفقات اللاجئين.
تتبنى
السعودية وقطر بالشراكة مع تركيا بشكل خاص فكرة تخفيف العقوبات، لا سيما تلك
المفروضة على البنية التحتية والقطاعات العامة، انطلاقًا من اعتقاد بأن ذلك سيعزز
مكانة القيادة الجديدة، ويواجه النفوذ الإيراني، ويحول دون تحول سوريا إلى
"دولة فاشلة".
ويُنظر
إلى تخفيف العقوبات باعتباره خطوة أولى حاسمة نحو تحقيق الاستقرار في القطاعات
الأساسية، وتهيئة المناخ للاستثمار الدولي. ويمكن لجهود التعافي المبكرة، المدعومة
بتخفيف العقوبات، أن تتيح عودة آمنة للنازحين السوريين، وتساهم في تحقيق الاستقرار
الإقليمي على نطاق أوسع.
ترى
هذه الدول أن الاستقرار الجيوسياسي يكتسب أهمية بالغة لرفاهية اقتصاداتها، التي قد
تتضرر من جراء حالة عدم اليقين الاقتصادي أو التصعيد مع إيران. وهناك تفاؤل بأن
تحقيق السلام في الشرق الأوسط من شأنه أن يدعم الأجندات الاقتصادية لدول الخليج
الساعية لتنويع اقتصادها وبناء اقتصاد ما بعد النفط.
ثانيًا:
التحالفات السائلة الفضفاضة
تشير
الحالة السورية إلى تقارب محدد في المصالح بين الفواعل الإقليمية فيما يتعلق
باستقرار سوريا وإعادة إعمارها، وخاصة في جهودهم للتأثير على السياسة الأميركية
بشأن العقوبات، وأدوارهم في الاستثمار بعد الصراع. ومع ذلك، فإن هذا لا يمثل
بالضرورة إجماعًا إقليميًا أوسع بشأن مجمل القضايا والأزمات في الإقليم، كما يتضح
من ديناميكيات التوازن المحتملة، والتنافسات القائمة.
تظل
أولوية الدول لمصالحها القُطرية، ولم يحدث حتى الآن حوار جاد بين "الفواعل
الرئيسية" في الإقليم حول ملامح نظام إقليمي جديد. ومصالحها في سوريا متعددة
الأوجه، ورغم تقاربها حول نقاط محددة، فإنها لا تعكس بالضرورة إجماعًا إقليميًا
شاملًا. بل إنها مدفوعة إلى حد كبير بتقارب مصالح محددة بين هذه الدول فيما يتعلق
بمستقبل سوريا واستقرارها، لا سيما بعد تغيير الحكومة فيها.
ثالثًا:
التطبيع المرتبط بإنهاء الاحتلال
لم
تعد أولوية ترامب هي ضم مزيد من الدول العربية الكبرى إلى اتفاقيات أبراهام، وقد
تراجعت محاولاته لإقناع بقية دول الخليج للانضمام لتلك الاتفاقيات التي أقرت
اعترافًا متبادلًا وعلاقات اقتصادية بين بعض الدول العربية الموقعة عليها
وإسرائيل.
وفي
مقابل ذلك، فقد أكدت الدول غير الموقعة بوضوح موقفًا من هذه القضية يتماشى مع
الخطة العربية التي تحدد إستراتيجيات إعادة إعمار غزة وتنميتها، وتدعم قيام دولة فلسطينية
ذات سيادة على أساس خطوط الرابع من يونيو/ حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية،
وتشترط التطبيع مع إسرائيل فقط بعد أن يوقع القادة الإسرائيليون والفلسطينيون
اتفاقية سلام تحل جميع قضايا الوضع النهائي، وتنهي الاحتلال العسكري الإسرائيلي،
وترسخ السيادة الفلسطينية على غزة والضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية).
تأمين
اتفاق نووي مع إيران يمثل حاليًا أولوية أكثر أهمية بالنسبة لترامب، وهو كذلك شديد
الأهمية للمملكة العربية السعودية ولبقية دول الخليج. فالمملكة، التي عارضت
الاتفاق النووي الإيراني في عام 2015، تشجع الولايات المتحدة الآن على المضي قدمًا
في المفاوضات لمنع الحرب.
وفي
حين توصف اتفاقيات التطبيع بأنها لا تزال "حية وبصحة جيدة" على الرغم من
العدوان الإسرائيلي"، إلا أن المستقبل القريب للتطبيع واسع النطاق، خاصة مع
لاعبين رئيسيين في المنطقة، يبدو أنه يتأثر بالسياق الإقليمي الحالي، بما في ذلك
الإبادة الجماعية في غزة وإعطاء الأولوية لقضايا أخرى مثل الاتفاق النووي
الإيراني.
إن
نهج ترامب القائم على المعاملات وتركيزه على الصفقات الاقتصادية خلال الزيارة قد
أدى أيضًا إلى تهميش القضية الفلسطينية مقارنة بالجهود الدبلوماسية التي بذلتها
الإدارات السابقة.
رابعًا:
مراعاة المصالح الأميركية
تشارك
الدول الراعية لسوريا بفاعلية في ضمان الاستقرار والسلام الإقليميين، وهو ما يوصف
بأنه ضروري لتحقيق الرخاء الاقتصادي وتحويل المنطقة إلى مركز للفرص -كما اشار
ترامب في زيارته الأخيرة للخليج.
تسعى
هذه الدول لإخراج المقاتلين الأجانب وتطالب بإخراج إيران من سوريا، ولبنان بتقليل
نفوذ حزب الله على السياسة اللبنانية، وهو ما يتماشى مع الأهداف الإستراتيجية
للولايات المتحدة. وتفضل الحل الدبلوماسي فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني
لتجنب الصراع العسكري وحماية بنيتها التحتية الاقتصادية. وهذا يتماشى مع تفضيل
إدارة ترامب للتوصل إلى اتفاق تفاوضي.
تُعتبر
هذه الدول وسيطًا محتملًا في الصراعات الإقليمية وحتى العالمية، حيث استضافت
السعودية محادثات بشأن أوكرانيا وعرضت التوسط في المفاوضات النووية الإيرانية الأميركية
المستقبلية. وتستضيف قطر المفاوضات بين حماس وإسرائيل، كما تلعب هذه الدول جميعًا
دورًا في عدم عودة تنظيم الدولة، وهو ما يتماشى أيضًا مع أهداف مكافحة الإرهاب
الأميركية.
خامسًا:
شرق أوسط بلا جماعات مسلحة
شهد
عام 2024، وما مضى من هذا العام، استخدام إستراتيجيات متنوعة لمواجهة
"الجماعات المسلحة غير الحكومية" في الشرق الأوسط. واجهت بعض الجماعات،
مثل "محور المقاومة"، إجراءات تهدف إلى إضعاف قدراتها -خاصة العسكرية.
في المقابل، كانت هناك حالات دمج حكومي محتمل لبعض الجماعات المسلحة، كما هو الحال
في سوريا بعد الأسد، وجهود لدمج جماعات أخرى في هياكل الدولة -كما يجري مع قوات
سوريا الديمقراطية (قسد)، وجهود للمصالحة مع الدولة عن طريق حل جناحها العسكري مع
قبول لاندماجها في العملية السياسية كحزب شرعي -كما يجري مع حزب العمال
الكردستاني (PKK) في تركيا.
"محور
المقاومة" الذي يضم جماعات مثل حزب الله والحوثيين وجماعات المقاومة
الفلسطينية شهد "انتكاسات كبيرة" في عام 2024 أدت إلى "إضعاف
موقفهم العام". أما حماس، فمن المرجح أن تخرج من الصراع الدائر منذ أواخر
2023 حتى الآن "بقدرات عسكرية ضعيفة إلى حد كبير"؛ بسبب "العدوان
العسكري الإسرائيلي".
هذه
التطورات، التي يمكن أن نضم إليها التعامل مع الجماعات المسلحة الشيعية في العراق،
تعكس تطلع الولايات المتحدة وشركائها في الاتحاد الأوروبي والمنطقة نحو شرق أوسط
بلا جماعات مسلحة، أو على أقل تقدير يختفي فيه أكثرها.
يبدو
أن الولايات المتحدة وشركاءها يهدفون على الأرجح إلى شرق أوسط، يتقلص فيه نفوذ بعض
"الجماعات المسلحة غير الحكومية" وأفعالها المزعزعة للاستقرار بشكل
كبير.
الهدف
الإستراتيجي من ذلك هو تهيئة الشرق الأوسط ليكون معبرًا وممرًا لخطوط التجارة
العالمية، بما يتطلبه ذلك من تطبيع العلاقات السياسية بين دوله المختلفة.
سادسًا:
إسرائيل/ نتنياهو: وصفة عدم استقرار
إسرائيل
متورطة في حرب على "سبع جبهات" -على حد قول قادتها- ولا تريد للمنطقة أن
تهدأ أبدًا. يتجلى ذلك في تورط إسرائيل المباشر في الإبادة الجماعية في غزة،
واعتداءات المستوطنين في الضفة، وعدوانها العسكري المستمر في سوريا، وموقفها
الرافض لإقامة الدولة الفلسطينية، والرغبة في حل عسكري للبرنامج النووي الإيراني،
وتداعيات التهجير للفلسطينيين على الاستقرار في مصر والأردن.. باعتبارها عوامل
مهمة تؤثر على الديناميكيات الإقليمية المعقدة وغير المستقرة في كثير من الأحيان.
بات
واضحًا التأثير الضار للصراعات المنخرطة فيها إسرائيل على التعاون الإقليمي
الأوسع. يرتبط مستقبل طرق التجارة المقترحة وممرات الطاقة في الشرق الأوسط
ارتباطًا وثيقًا بمستقبل حكومة نتنياهو وتحالفه اليميني المتطرف.
يُشكل
عدم الاستقرار الذي تُسببه حكومة اليمين المتطرف في الكيان الصهيوني حاليًا
تهديدًا كبيرًا لتحقيق هذه المشاريع وأمنها. لذلك، من المرجح أن تتطلب الجهود
المبذولة لإنشاء هذه الطرق التجارية والحفاظ عليها معالجة وضع
"المتطرفين" على جميع الجبهات. ويمكن للديناميكيات المحيطة بهذه الطرق،
بدورها، أن تُشكل المسار المستقبلي للاستقرار الإقليمي -هكذا يتصور البعض.
هذا
الهدف الإستراتيجي لـ"الرأسمالية الأميركية"، يعني أيضًا بعدين
متكاملين: مواجهة ممر الحزام والطريق الذي تدعمه الصين، والتفرغ لمواجهة الصين
بالانسحاب من الشرق الأوسط المستقر.
سابعًا:
إعادة ضبط نفوذ إيران التي لم تعد عدوًا
دول
الخليج الرئيسية (السعودية، الإمارات، قطر) وتركيا تتبنى مقاربات مختلفة للتعامل
مع إيران، ولكنّ هناك اتجاهًا مشتركًا نحو تفضيل الحلول الدبلوماسية والتفاوضية.