العدد 1696 /31-12-2025
غازي دحمان
منذ بيانها
الأول، أعلنت ما تُسمّى "سرايا أنصار السُّنة" أن هدفها ضرب الأقليات في
سورية، في نوع من الانتقام منها بسبب موقفها المساند نظام الأسد، إضافةً إلى أن
التنظيم أعلن عمليات عسكرية ضدّ إسرائيل انطلاقاً من الجولان. وبالطبع، لم تقم هذه
المنظمة المزعومة بأيّ عمل ضدّ إسرائيل، كما لم تتكشف أيُّ معلوماتٍ عن هيكلية هذا
التنظيم وقدراته، سوى إعلان اسم قائده، أبو عائشة الشامي. وسبق أن تبنّى التنظيم
تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق، وتبنّى أخيراً عملية تفجير مسجد علي بن أبي طالب
في حمص. ويتضح من خريطة عملياته أن هدفها التعجيل بإشعال حرب أهلية بين المكوّنات
السورية، إضافةً إلى هزّ صورة حكومة الرئيس أحمد الشرع وإثبات عدم أهليتها وعدم
قدرتها على ضبط الوضع الأمني في سورية.
يتقاطع التنظيم
في الأهداف مع أطراف داخلية وخارجية عديدة من مصلحتها بالفعل إضعاف الحكومة، ما
يعني وجود احتمال لانخراط التنظيم ضمن شبكة من العلاقات التخادمية والمصلحية مع
تلك الأطراف، حتى وإن اختلفت في أيديولوجياتها ورؤاها، الأمر الذي يتيح للتنظيم
الاستفادة من الخبرات والإمكانات اللوجستية والتمويلية التي توفّرها له أطراف
الشبكة.
... يبدو أن "سرايا أنصار السنّة"
يتبنّى نمطاً عملياتياً يرتكز على "الذئاب المنفردة"، وهو ما كشفته
عملياته في دمشق وحمص؛ إذ كان الفاعل في الحالتَيْن انتحارياً أو عنصراً وضع حقيبة
متفجّرات وغادر المكان. وفي الغالب، يشير تبنّي هذا الأسلوب إلى تحوّط التنظيم من
إمكانية القبض على عناصره وانكشاف معلومات عن هيكليته أو مصادر تمويله وشبكة
علاقاته. وقد يشير ذلك إلى ضعف في قدراته التجنيدية واعتماده على عدد محدود من
العناصر، ربّما بسبب أيديولوجيته التي تبدو استنساخاً من أيديولوجيا تنظيم الدولة
الإسلامية (داعش)، ما يضعف قدرة التنظيم على الاستقطاب في مجال تبدو
"داعش" فيه أكثر إغواءً وقدرةً، خطابياً ومالياً وعقدياً.
لا يحتاج هذا
التنظيم إلى جحافل وجيوش جرّارة لإثبات فعّاليته، في تكرار لتجربة
"داعش"؛ فهو مصمّم على القيام بعمليات نوعية في خطوط الصدع السوري تؤدّي
إلى تصدّع السلم الأهلي الهشّ إلى درجة كبيرة، بل والمقيم دائماً على عتبة
الانفجار، بانتظار حدث ما يطلق دينامياته المتحفّزة أصلاً، والمرتكزة على أشواق
بعض السوريين إلى حرب أهلية تعيد ترتيب التوازنات وتضرب المعادلات المتشكلة حديثاً
بعد التغيير الذي شهدته سورية.
يحيل هذا الأمر
إلى حقيقة مُرّة يعاني منها الواقع السوري الجديد، وهي نتاج مسؤولية جميع الفاعلين
في سورية، وإن كانت تقع المسؤولية الأكبر على عاتق منظومة الحكم التي تتزعمها هيئة
تحرير الشام. وتتمثّل هذه الحقيقة بعجز الفاعلين عن التوصّل إلى صيغة توافق تسهم
في سدّ الفراغات التي يمكن لخطاب التحريض والكراهية التسلّل منها لتحطيم النسيج
الوطني، ووضع مستقبل البلاد على كفّ عفريت، نتيجة ضعف الأفق، وتفضيل المصالح
الضيقة، والإصرار على التفرّد بقيادة البلد وفرض رؤى قاصرة عن رؤية المشهد بعقليةٍ
منفتحة، بما يحول دون إنتاج سياساتٍ قادرةٍ على إدارة البلاد نحو مستقبل أفضل.
لا تحتاج السلطة
الجديدة إلى تجريد حملات ضدّ "داعش" و"أنصار السُّنة"
وأضرابهما، لأنّ أيّ تحرّك في هذا الاتجاه (في ظلّ الإدارة الخاطئة للسياسة في
سورية) لن تكون له نتائج مجدية وفاعلة ما دامت السلطة مُصرّةً على نهج التفرّد في
الحكم، وتخوين الآخرين، ودفعهم إلى البحث عن خياراتٍ أخرى، نتيجة نفورهم ممّا وصلت
إليه الأمور في سورية، بما يدفع بعضهم إلى اتباع أكثر التوجّهات تطرّفاً.
وباختصار، أوجدت سلطة الشرع البيئة الخصبة لنمو هذه التيارات، وجميع الفاعلين
الآخرين يستثمرون في هذه البيئة.
ولإثبات هذه
الإشكالية، لنتصوّر لو أن سلطة الشرع تبنّت سياسة مختلفة تقوم على التشاركية ورؤى
منفتحة، بحيث أُشرك السوريون (بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية والعرقية
والسياسية) في وضع أسس المرحلة الانتقالية، هل كان من الممكن أن نرى أفكاراً من
نوع الانفصال والتقسيم، أو حتى بروز شخصياتٍ مثل حكمت الهجري وغزال غزال؟ المؤكّد
أن دوافع مثل تلك الأفكار أو اتباع مثل تلك الزعامات ستكون ضعيفة إلى حد بعيد.
وعلى العكس، ستكون هناك حواضن للدولة لديها القدرة والحجة والاستعداد لمواجهة تلك
الأفكار والزعامات، وعزلها وإضعاف تأثيراتها إلى أبعد الحدود.
لقد أدّت سياسة
هيئة تحرير الشام، بعد عام من الحكم، إلى توسيع مساحات الخواصر الرخوة في سورية،
وهيأت فرصاً سهلة للمنافسين (أو لنقل لخصومها) للتفنّن في العمل ضدّها حتى من دون
تكاليف مرتفعة، عبر امتلاك خريطة الخواصر الرخوة الشاسعة في الجسد السوري المُنهَك،
في أطرافه ومركزه، ومن رأسه حتى أخمص قدميه.
وتُعدُّ حمص وحلب
والسويداء وشرقي سورية وساحلها ساحاتٍ مفتوحةً على الخطر المتربّص بسورية، ولا
يمكن معالجة ذلك إلا بمقاربات جديدة، ومن خارج صندوق الأدوات الذي تعاملت به هيئة
تحرير الشام، قبل أن تدخل البلاد في طريق الحرب الأهلية التي لا عودة منها إلى
سورية مستقرّة موحّدة ومتعافية.