الشرع وإسرائيل... أرضيّة هشّة
العدد 1666 /4-6-2025
حسام أبو حامد
شكّل لقاء أحمد الشرع - دونالد ترامب في الرياض، منتصف الشهر
الماضي (مايو/ أيار)، نقطة تحوّل غير مسبوقة في مسار العلاقات السورية الأميركية،
والغربية عموماً، خصوصاً مع قنوات تواصل غير مباشرة مع إسرائيل (مستمرّة). لم يكن
الحدث خرقاً للمحظور السياسي التقليدي في سورية فقط، بل لحظة مفصلية تكشف طبيعة
المرحلة المقبلة، مرحلة إعادة صياغة التوازنات، محلّياً وإقليمياً. إلا أن ما يجب
الانتباه إليه ليس الحدث في ذاته، بل تداعياته على الداخل السوري، الذي تغيّر في
تركيبته وأولوياته.
بالانفتاح على الغرب، والقبول الضمني بتفاوض مع إسرائيل،
يقدّم النظام السوري الجديد نفسه براغماتياً قادراً على كسر الجمود السياسي، مقابل
مكاسب اقتصادية وخروج من العزلة، إلا أن مخاطره الداخلية عميقة. صحيحٌ أن الشعارات
القومية لم تعد أولويةً لدى قطاع واسع من السوريين، لكن ذلك لا يعني أن الذاكرة
الجمعية قد غفرت للاحتلال الذي يحتل أراضي سورية ولا يزال يقصف العمق السوري. هناك
فرق بين تراجع الحماسة والقبول العلني بالتطبيع. هذه المسافة، إن لم تُدر بحكمة،
قد تولّد انفجارات مفاجئة. لا يمكن تفسير الصمت قبولاً شعبياً، بل ناتج تراكمي
لعوامل عدّة، بعد أن أنهكت سنوات الحرب الذاكرة السياسية، وغيّرت الوعي الجمعي،
فالأجيال الجديدة أقلّ انغماساً في القضايا الكبرى، وأكثر حساسية لمسائل المعيشة
المباشرة، ما ينتج مناخاً يقبل (أو يتسامح مع) تحوّلات جذرية في السياسة الخارجية،
ما دامت تُفضي إلى تحسّن اليومي المُعاش. لكن هذا الصمت ظرفي، هشّ، لا يمكن البناء
عليه مؤشّراً استراتيجياً، وأيّ خطوة علنية نحو التطبيع، إن لم تُغطّ داخلياً
برؤية وطنية شاملة، قد تواجه ردّات فعل واسعة، حتى لو تأخّرت.
تستفيد التيّارات المتطرّفة، في مقدّمها سرايا أنصار السنة
(أعلنت تشكّلها في فبراير/ شباط الماضي، وتتغذّى ممّا تسميه "انتقاماً
طائفياً" ضدّ بقايا الحاضنة الاجتماعية للنظام السابق)، وإنْ لم تزل محدودة
التأثير عسكرياً، من هذه اللحظات الرمادية لتوسيع قاعدتها، انطلاقاً من
"هوامش العدالة المؤجّلة"، وتُقدّم نفسها أداةً انتقاميةً ضدّ ما تراه
تنازلاً شرعياً وطنياً وطائفياً، في آنٍ معاً. فالانتقال السياسي ما بعد الأسد لم
يرافقه انتقالٌ عادلٌ في البنية الحقوقية، وليس هناك بعد أيّ محاكمات بحقّ أبرز
رموز النظام السابق، ولا مشروعَ مقنعاً للعدالة الانتقالية أو المصالحة الوطنية. يفتح
هذا الفشل الباب أمام مشاعر متصاعدة من الإحباط، خصوصاً من الضحايا أو عائلاتهم.
"القاعدة" و"داعش" يعيدان ترتيب أوراقهما في مناطق سورية،
ويجاهران بتكفير الشرع، ورغم التحوّلات السياسية والعسكرية في هيئة تحرير الشام،
لا تزال في بقاياها تيّارات متشدّدة، قد ترى في خطوات الشرع نحو الغرب وإسرائيل
انحرافاً خطيراً عن المبادئ العَقَدية الثورية. لا يعني صمت هذه التيّارات، حتى
اللحظة، موافقةً، بل قد يكون انتظاراً لفرصة الطعن أو الانقضاض. والرئيس الشرع،
وإن نجح في احتوائها بمزيج من الشرعية الدينية والتماسك الأمني، يعلم جيّداً أن
أيّ شرخ داخلي في هذا الكيان سيفتح باباً لانفراط عقد السلطة، فنجاح مشروع الشرع
في الانفتاح السياسي مرهونٌ ببقاء الهيكل العسكري والأمني متماسكاً، شرطاً أساسياً
لمنع الانشقاقات أو الانهيارات الداخلية. ولا بدّ من صيغة قانونية وتوافقية
للمصالحة، تطمئن الطوائف، وتنصف الضحايا السوريين جميعهم، وتكسر دائرة الانتقام.
ومن المهم تقديم أيّ علاقة مع إسرائيل جزءاً من تفاهماتٍ استراتيجيةٍ تضمن المصالح
الوطنية، لا تسويةً على حساب الكرامة أو المبادئ.
سورية الجديدة في مفترق طرق صعب، الانفتاح على إسرائيل إن
ضمن دعماً دولياً وشرعيةً خارجيةً، إلا أنه لا يضمن وحده الشرعية الأخلاقية
والشعبية، التي تُبنى على إصلاح داخلي حقيقي، وعدالة انتقالية شجاعة، ومشروع وطني
يتجاوز الطوائف والانقسامات. ونجاح الشرع مرهونٌ بقدرته على صناعة توازن صعب؛
محاورة الخارج بلا تنازل عن الثوابت، وضبط الداخل بلا قمع، وصوغ عقد وطني لا يخاف
من مواجهة الماضي ولا التفاوض على المستقبل، فالسلام بلا مكاسب وطنية هدنة مؤقّتة،
غير مضمونة بحكم طبيعة المشروع الإسرائيلي نفسه، والانفتاح بلا تماسك داخلي خطر
مؤجَّل.