العدد 1582 /3-10-2023
عصام تليمة
الحديث عن محمد صلى الله
عليه وسلم رسول الإسلام، حديث لا يُمل ولا ينتهي، فذكْره على لسان المسلمين لا
ينقطع ليل نهار، سواء سماعا أو قولا أو معيشة ومعية، وكنت أفكر في كتابة موضوع
يكون عرضا لكتاب جديد يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقرب حلول ذكرى
مولده، التي تحل بعد بضعة أيام، فوجدت اقتراب الأيام بين يوم المولد في هذا العام
تحديدا، وبين ذكرى مرور عام على وفاة شيخنا العلامة يوسف القرضاوي، وقد كان قبل
وفاته قد كتب كتابا نُشر لأول مرة بعد وفاته، ضمن سلسلة الأعمال الكاملة له، لكني
لم أره يُنشر مفردا، وهو جدير بذلك، حيث كتبه في مجلد كبير بعنوان: "الرسول
صلى الله عليه وسلم رحمة الله للعالمين".
أمنية القرضاوي كتابة
مؤلف في السيرة النبوية:
كانت لدى القرضاوي أمنية
قديمة لكتابة مؤلف في السيرة النبوية، وعاش وكل أمله تحقيق هذه الرغبة، وهي رغبة
لدى كثير من الكتاب والأدباء والعلماء، وأهل الإبداع الأدبي والفني، تجد إبداع كل
هؤلاء في كتابات وقصائد وأعمال فنية تتعلق بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل
وتجد كتابات لبعض الغربيين ممن أسلموا تهتم جدا بتسجيل وتدوين زيارتهم للحج
والعمرة، وبخاصة زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد، ويكتبون في ذلك.
كانت لدى القرضاوي أمنية
قديمة لكتابة مؤلف في السيرة النبوية، وعاش وكل أمله تحقيق هذه الرغبة، وهي رغبة
لدى كثير من الكتاب والأدباء والعلماء، وأهل الإبداع الأدبي والفنيلم أكن منتبها للحديث
عن كتاب القرضاوي، حتى كتبت مقالا على موقع "عربي21" بعنوان:
"موسوعة الأعمال الكاملة للقرضاوي.. عمل ضخم، وعالم متفرد"، وقد ذكرت
فقرة عن الكتاب، ففوجئت بكاتب غربي من المشهورين باهتمامهم بالإسلام السياسي،
والمؤسسات الدينية، وبخاصة الإفتاء والفتوى، يتواصل معي ويسألني عن الكتاب، بعد
قراءته المقال، ثم طلب مني تصوير فهرسه ومقدمته، ثم يسأل عن تأمين نسخة له، وبخاصة
أن الكتاب ضمن موسوعة مكونة من (105) مجلد، أي أن الكتاب لم يطبع مستقلا.
نظر القرضاوي فيمن كتبوا
السيرة النبوية قبله، فمنهم من كتبها بالسرد التاريخي، بأن يكتبها منذ ولادته صلى
الله عليه وسلم وحتى انتقاله للرفيق الأعلى، بداية من ابن هشام في سيرته، وانتهاء
بمعاصرين، وقد كان القرضاوي أميل لهذا الأسلوب، وقد كان أعد الكتاب ورتب فصوله،
وأراد بذلك أن يقدمه للعالم الإسلامي بمناسبة القرن الخامس عشر الهجري، أي قبل خمس
وأربعين سنة، لكنه اعتذر عن كتابته بهذه الأسلوب؛ لأن الشيخ الغزالي رحمه الله في
كتابه "فقه السيرة"، قد كتبه بأسلوب يعز على امرئ عربي أن يكتب مثله،
فقد كتبه وهو في المدينة المنورة، تشرق عليه الأنوار، وتتجلى له الأسرار، ونفع
الله به كثيرا من الناس.
يقول القرضاوي:
"وقلم الغزالي أفضل من قلمي، وقلبه أوسع من قلبي، وأدبه العربي أروع من
أدبي". وهذا من شدة تواضع العلماء، أن يأبى القرضاوي أن يخوض غمار عمل علمي
سبقه إليه آخر، وأبدع فيه، فيوفر جهده ونشاطه لعمل آخر نافع، ولو في نفس الموضوع،
بمنهج وطريقة أخرى.
الطريقة التي كتب بها:
قبل كتابة الكتاب، حدثني
القرضاوي رحمه الله عن خطته له، فقال لي: إنني أريد أن أكتبه على طريقة العقاد في
كتابه "عبقرية محمد"، وذلك بالحديث عن السيرة النبوية موضوعيا، أي
موضوعات من السيرة النبوية، وليست أحداثا تُسرد، ولا بتسلسل تاريخي لها. وكما تأثر
القرضاوي في تناوله بطريقة العقاد، فقد تأثر أيضا في العنوان، فقد تأثر بكتاب
العلامة الهندي المنصوري، صاحب كتاب "رحمة للعالمين"، وإن كان العنوان
عاما، لأنه مقتبس من آية، لكن يظل أول استعمال له من عالم تجدر الإشارة إليه، أيضا
كانت طريقته في الكتاب أميل للحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم موضوعيا.
اختار القرضاوي خمسة عشر
جانبا من الجوانب المهمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم للحديث عنها، وهي:
الرسول العابد، الزاهد، الداعية، البليغ، المعلم، المجاهد، القائد، الإنسان، صاحب
الذوق السليم، الزوج، الأب والجد، ذو الخلق العظيم، ذو العدل والرحمة، رياضي الجسم
والروح والفكر، المبعوث إلى العالم.
الكتاب مملوء بحشد
النصوص الكثيرة من السنة والسيرة، في الدلالة على الموضوعات التي انتقاها القرضاوي
بعناية شديدة، وكلها من الصحيح، فندر أن يستدل بحديث مختلف في صحته، وإن ذكره،
عضده بما يؤكده من القرآن الكريم، وهو منهج حافظ عليه القرضاوي في جل كتبه.
ويمكن لقارئ الكتاب أن
يجد معظم الموضوعات قد أفرد لها مؤلفون آخرون كتبا، أو موضوعات عن النبي صلى الله
عليه وسلم زوجا، أو في بيته، أو غزواته، لكن تناول القرضاوي يختلف تماما عن تناول
هذه الموضوعات، لما أضافه من لمسات تجمع بين لمسة الفقيه، والمفكر، والداعية،
والأديب المتأمل في نصوص السنة والسيرة.
الجانب الإنساني والذوق
في حياة الرسول:
ولذا سنجد بابا انفرد به
القرضاوي في تناول السيرة النبوية، وهي الجانب الإنساني عند محمد صلى الله عليه
وسلم، وإن كان المفكر الكبير الأستاذ خالد محمد خالد قد تناول هذا الجانب، بشكل
غير مسبوق، في كتابه الرائع "إنسانيات محمد"، وسبقه بشكل مختصر الأستاذ
محمود تيمور، في مقال بعنوان: النبي الإنسان. لكن القرضاوي في هذا الباب تناول
مبحثا لم يُسبق إليه، وهو الفصل الذي عنون له بـ"الرسول صاحب الذوق السليم".
فقد أرشدت السنة والسيرة
المسلم ليتحلى بخلق الذوق في تعامله، سواء في تعامله مع الله، أو مع رسوله صلى
الله عليه وسلم، أو مع الآخرين، في المجالس، على الطعام والشراب، مع الجيران، أو
مع أسرته: زوجه، أولاده، مع خصومه وأعدائه، في خطابات النبي صلى الله عليه وسلم
للملوك والأمراء والحكام في زمانه، ومع سادات القبائل.
حشد القرضاوي نصوصا
مهمة، في الذوق في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، من حيث مصافحته للناس،
وابتسامه عند لقائهم، وممازحته لهم، وتلطفه في التعامل معهم، سواء مع الكبار أو الصغار،
الرجال والنساء، وكيف كان صلى الله عليه وسلم مرهف الحس، شديد الحياء، كالعذراء في
خدرها كما وصفه بذلك صحابته الكرام.
وفي الكتاب لمسات ولفتات
يدلك عليها القرضاوي من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وذوقه، ومن دلائل ذلك: ما
كتبه تحت عنوان: من الذوق النبوي التعبير عن العلاقات الجنسية بما ليس بمكشوف، فلم
يكن يتحدث صلى الله عليه وسلم بطريقة مكشوفة، أو تسبب خجلا وحرجا للسامع، ومن ذلك
قول النبي صلى الله عليه وسلم للمطلقة ثلاثا، لما أرادت أن تعود لزوجها الأول بعد
أن عقد عليها غيره: "حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عسيلتك"، وهي كناية عن
الجماع.
رحم الله القرضاوي الذي
عاش سنوات عمره خادما للسنة النبوية والسيرة، وقد كان آخر منصب إداري تولاه في
جامعة قطر: مدير مركز بحوث السنة والسيرة، وهو المركز الذي أسسه وآخرون في مطلع
القرن الخامس عشر الهجري. وختم القرضاوي حياته بموسوعته، والتي كتب فيها ما تمناه
من كتاب حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، معبرا به عن حبه له، ورجائه لشفاعته.
كان الكتاب من أواخر ما كتب، لكن سبقته كتب أخرى، كانت عن السنة، شرّقت وغرّبت،
ونالت إعجاب المختصين، وحمت السنة ودافعت عنها، فجزاه الله خيرا، وجعل ذلك كله في
ميزان حسناته.