العدد 1581 /27-9-2023
عصام تليمة
إنني تبت إلى
الله وندمت على ما فعلت، وأنوي إن شاء الله ـ بعد شفائي ـ أن أكون جنديا للفكر
الإسلامي وللدفاع عن الحضارة التي شادها الآباء والأجداد..
كثيرون كتبوا عن
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، سواء كانوا مسلمين، من أهل العلم والبحث
والديني، أو مسلمين دفعهم الشوق والحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكتبوا عنه،
أو عن حياته وعظمته، وكثيرا ما كتب عنه غير مسلمين، سواء غربيين أو شرقيين أيضا،
ونحن نتحدث عمن كتبوا عنه بإنصاف وحيدة، ودافعوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن
لكتابة من ابتعدوا عن تعاليم النبوة، وكانت لهم مواقف بعيدة عن الإسلام، إن لم تكن
ضده، من أهل الإسلام، لهذه الكتابة من هذا الصنف من الكتاب، مذاق خاص، ونظرة
مختلفة، من حيث هي تكفير لماضي لا يشرفهم، أو من حيث النظرة التي ينظرون بها إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد رأيت ونحن في
شهر ربيع الأول، أن نتناول بعض الكتب التي كتبها هؤلاء، أعني: من كانوا ملاحدة، أو
على غير نهج الإسلام الصحيح، ثم عادوا إليه بقوة، فكانوا من أعظم المنافحين
والمدافعين عنه، وعن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
ويأتي في قائمة
هؤلاء: الدكتور عبد الرحمن بدوي، والذي كانت مواقفه لنصف قرن من حياته، ضد
الإسلام، وسمي بـ: فيلسوف الوجودية، وكان أهم منظر لها في العالم العربي، وكتب
أشعارا ومقالات تمجد الإلحاد، حتى هاجمه يوما ما من باب النقد الأدبي: الأستاذ سيد
قطب رحمه الله، في مقال مهم في مجلة: (الرسالة).
لكن بدوي تحول في
أخريات حياته، وهو ما حدث مع فيلسوف آخر، كان يلقب بشيخ الفلاسفة، وهو الدكتور زكي
نجيب محمود رحمه الله، كتب بدوي كتابين في الدفاع عن القرآن والنبي صلى الله عليه
وسلم، أما الأول فعنوانه: دفاع عن القرآن، وأما الثاني فعنوانه: دفاع عن محمد صلى
الله عليه وسلم ضد المنتقصين من قدره.
كان بدوي في
أخريات حياته نادما على المرحلة التي عاشها مبتعدا عن الإسلام، بل ضد تعاليمه، فقد
قال نادما عن ماضيه، ومبينا ما ينتوي فعله تجاه الإسلام: (لا أستطيع أن أعبر عما
بداخلي من إحساس الندم الشديد، لأنني عاديت الإسلام والتراث العربي لأكثر من نصف
قرن. أشعر الآن أنني بحاجة إلى من يغسلني بالماء الصافي الرقراق؛ لكي أعود من جديد
مسلما حقا، إنني تبت إلى الله وندمت على ما فعلت، وأنوي إن شاء الله ـ بعد شفائي ـ
أن أكون جنديا للفكر الإسلامي وللدفاع عن الحضارة التي شادها الآباء والأجداد،
والتي سطعت على المشارق والمغارب لرقون وقرون).
كان بدوي في
أخريات حياته نادما على المرحلة التي عاشها مبتعدا عن الإسلام، بل ضد تعاليمه، فقد
قال نادما عن ماضيه، ومبينا ما ينتوي فعله تجاه الإسلام: (لا أستطيع أن أعبر عما
بداخلي من إحساس الندم الشديد، لأنني عاديت الإسلام والتراث العربي لأكثر من نصف
قرن. أشعر الآن أنني بحاجة إلى من يغسلني بالماء الصافي الرقراق؛ لكي أعود من جديد
مسلما حقاوعندما سئل عما يتمنى، فقال: (أتمنى أن يمد الله في عمري؛ لأخدم الإسلام،
وأرد عنه كيد الكائدين، وحقد الحاقدين). وقد كان ذلك آخر حوار له قبل وفاته، كما
بين ذلك الدكتور محمد عمارة رحمه الله في مقدمة كتاب: (دفاع عن محمد صلى الله عليه
وسلم) لبدوي، وقد حرص عمارة على نشر الكتاب هدية مع مجلة (الأزهر)، وقد كانت هذه
الكتب التي تنشر مع المجلة هدية للقارئ، وهي كتب عظيمة ونافعة، وقد ركز عمارة على
الكتب التي تعالج المشكلات الفكرية للشباب، وقد كانت تسبب حنقا وغيظا من خصوم
عمارة، وخصوم الفكر الإسلامي، وكثيرا ما مارسوا ضغوطهم ليستقيل من المجلة.
أما عن الكتاب،
فإنه ركز على طرح خمس قضايا يرد فيها الشبهة والافتراء عن رسول الإسلام صلى الله
عليه وسلم، وهي كالتالي:
1 ـ زعم
عدد من المستشرقين أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان مصابا بالهستيريا وحتى الصرع،
وبالتالي كانت حالة الوحي التي تأتيه حالة مرضية.
2 ـ أنه
كان صوفيا، وذلك حتى يبرروا ما ادعوه في الفرية السابقة، من الحالة الروحية التي
كانت مع الوحي.
3 ـ
دعوى حسية الرسول، وشهوانيته.
4 ـ
موقف النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود في المدينة.
5 ـ
الطعن في أصالة العبادة الإسلامية، وأنها مستقاة من الشريعة اليهودية.
وإذ بعبد الرحمن
بدوي يفند هذه الشبهات والدعاوى تفنيدا مذهلا، حيث استند الرجل على ثقافته الهائلة
المطلعة على التراث الاستشراقي، وعلى المناهج العقلية والبحثية الغربية والشرقية،
فيهدر في الإجابة ويسهب، ويفند كل شبهة وفرية، بأسلوب جذاب وموضوعي، كل ذلك لا
يحيد فيه عن منهجية متزنة.
ساعد بدوي على
ذلك: اطلاعه على مدارس الاستشراق، فالرجل قد كتب موسعة عن (المستشرقين) في مجلدين
كبيرين، فهو خبير بتاريخهم، وخبير بأفكارهم ومناهجهم، وخبير كذلك بما يطرحون من
شبه، وأسباب ورود هذه الشبه عندهم، سواء كان المقصود بها الانتقاص من قدر النبي
صلى الله عليه وسلم، أم هي بحث علمي، أخطأ فيه المستشرق بناء على خطأ في خطوات
البحث، أو منهجيته، كل ذلك قام به بدوي بعاطفة مؤمن محب لدينه ونبيه صلى الله عليه
وسلم، فعرض حقائق هذا الدين في إطار الرد المفحم عليهم.
وكان من أقوى ما
استدل به بدوي أنه جاء بشهادات لكتاب غربيين عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم
والقرآن، بل إن منهم من قارن بين القرآن الكريم والكتب المقدسة الأخرى، من عدة
أوجه، فكانت الكفة الراجحة؛ كفة القرآن الكريم، وهي شهادات من خصوم للإسلام، وليست
من أبنائه.فند بدوي الشبه المتعلقة بالوحي، وأنه وحي من عند الله تعالى، كما كان
الوحي على الرسل السابقين، وأن محاولة المستشرقين تبرير ذلك بأن محمدا صلى الله عليه
وسلم كان صوفيا، تتغشاه حالة روحية، وليست وحيا، فبين أن دين الإسلام لم يأت بما
يتعلق بالروح فقط، بل تعاليمه شملت كل ما يتعلق بالجسد والروح والعقل والنفس، في
توازن وتكامل، لا يوجد في دين غيره.
وكان من أقوى ما
استدل به بدوي أنه جاء بشهادات لكتاب غربيين عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم
والقرآن، بل إن منهم من قارن بين القرآن الكريم والكتب المقدسة الأخرى، من عدة
أوجه، فكانت الكفة الراجحة؛ كفة القرآن الكريم، وهي شهادات من خصوم للإسلام، وليست
من أبنائه.
وأما عند دفاعه
عن تعدد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما يتهمه به المتسشرقون بأنه شهواني، فدلل
بدوي من كتب القوم المقدسة، وجود أنبياء لهم، كانوا معددي زوجات، وبين أن معظم
زيجاته كانت لأهداف مشروعة، منها ما هو اجتماعي، وما هو تشريعي، وأن فترة الشباب
عند محمد صلى الله عليه وسلم تزوج بها بنساء يكبرنه في العمر، ولم يتزوج بكرا سوى
عائشة رضي الله عنه، بعد تجاوزه الخمسين.
وعن ادعائهم بأن
الإسلام اقتبس نظامه التعبدي من الأديان السابقة، فرد بدوي ردودا في غاية القوة،
حيث قام بمقارنة الحركات التي في الصلاة، والشروط والضوابط، وما يقرأ في الصلاة،
فقارن بين سورة الفاتحة، والقداس الأبوي، وبين أسماء الله الحسنى في القرآن وفي
الكتب السماوية الأخرى، وأنهما لا يلتقيان في كثير جدا، بل يختلفان، من حيث النظرة
لله عز وجل، ومن حيث الإيمان بصفاته وأسمائه العلى.
بل قارن بين بقية
التشريعات، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والأضحية، والنذور، وسائر العبادات
والمعاملات، وقارن بتفاصيل دقيقة ومهة تبين تمايز الإسلام فيها، وعدم تقليده
الغير، مع إيمان المسلم بهذه الكتب السماوية قبل تحريفها، وإيمانه برسلها جميعا.
وكنت أتمنى لو أن
بدوي بحكم اطلاعه على التراث الاستشراقي، في الرد على هذه المسألة، لو أنه أتى
بدراسات غربية استشراقية دللت على العكس، وهو تأثر الديانات الأخرى بالعبادة
الإسلامية، وهذه الكتابات صدرت من أتباع هذه الديانات، فقد كتب نفتالي فيدر وهو
باحث يهودي رسالة أكاديمية مهمة في جامعة أكسفورد سنة 1947 عن: التأثيرات
الإسلامية في العبادة اليهودية. وأن يكون رده على جولد زيهر في هذا الموضوع من
كلامه نفسه في كتابه عن موسى بن ميمون، وتأثره بالتشريع الإسلامي.
رحم الله الدكتور
عبد الرحمن بدوي، وجزاه خيرا عما قدم دفاعا عن دينه ورسوله، وقرآنه، ويبدو أنه كان
ينوي كتابة رد على شبهات المستشرقين حول السنة النبوية، كما بين في آخر كتابه:
(دفاع عن محمد)، ولكنه توفي قبل ذلك، بعد أن كتب كتابين يدافع بهما عن القرآن
والنبي صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة.