العدد 1619 /3-7-2024
د. وائل نجم

       "سُنّة لبنان"، والأصحّ "مسلمو لبنان" لم يتخلّفوا يوماً عن القيام بدورهم وواجبهم الإسلامي والقومي والوطني والانساني تجاه إخوانهم في الدين أو العروبة أو الوطنية أو حتى الانسانية لأنّهم تربّوا على القيم الأصيلة التي ترفض الظلم، وتكره الغدر والخيانة، وتأبى الخضوع والانقياد، وتؤمن بالوفاء، وتحافظ على العهد، وتئد الفتنة في مهدها، وترفع السيف وراية الجهاد بوجه كلّ غازٍ معتدٍ، وتمدّ يد التعاون لكلّ صديق مخلص، وتفتح القلب لكلّ شريك مؤمن بالشراكة الجادّة النافعة التي تعود بالخير على الجميع من دون استثناء.

         "سُنّة لبنان" كانوا حارسي القضايا القومية العربية وما زالوا؛ وقفوا إلى جانب فلسطين منذ اللحظة الأولى لغدر الصهانية والدول التي حمتهم ووفّرت لهم سبل بناء كيانهم المزعوم، فانضموا منذ ما قبل العام 1948 إلى العمق العربي في مساعدة الشعب الفلسطيني، ثمّ لاحقاً وقف رموزهم من أمثال معروف سعد ورشيد كرامي والمفتي الشهيد الشيخ حسن خالد وغيرهم سدّاً منيعاً بوجه كلّ من حاول النيل من القضايا العربية والقومية. وقفوا إلى جانب ثورة الشعب الجزائري للتخلّص من الاحتلال الفرنسي، فأمدوا هذا الشعب بما توفّر لديهم من أسباب القوّة حتى أنّ بعض نسائهم كنّ يتبرّعن بحلّيهن من أجل ثورة الجزائريين. وفي العصر الأخير وقفوا إلى جانب الشعب السوري وثورته في تجلّ واضح لموقفم الدائم في القيام بواجبهم في حراسة القضايا القومية والعربية.

       "سُنّة لبنان" كانوا حاملي لواء بناء الدولة والنهوض بها والدفاع عنها وحمايتها ودفعوا لأجل ذلك أثماناً باهظة بدءاً مما قبل الاستقلال مع عبد الحميد كرامي، مروراً بعهد الاستقلال مع رياض الصلح، وصولاً إلى ما بعد الحرب الأهلية المشؤومة مع رفيق الحريري. وما زالوا إلى اليوم يؤمنون بالدولة وبأنّها الملاذ الآمن للجميع، ويريدونها دولة لكلّ اللبنانيين، بل أكثر من ذلك دولة تحتضن الوافدين إليها ليعيشوا في كنفها بأمن وسلام وعدالة دونما أيّ اعتبار لجنس أو لون.

      و"سُنّة لبنان" مثّلوا خلال هذا التاريخ الطويل عنواناً للاعتدال والانفتاح والعيش المشترك مع بقية الشركاء في الوطن، ولم يعرفوا يوماً تطرّفاً أو تقوقعاً أو انعزالاً، وإذا ما بدر من أحدهم ذلك تجد أنّهم أول من يباشر بالمعالجة، وأذكر في هذا السياق كيف بادر الأمين العام السابق للجماعة الإسلامية في لبنان، المستشار الشيخ فيصل مولوي، إلى تنظيم مؤتمر إسلامي جامع في فندق "فينيسيا" في بيروت في العام 2007، وأصدر المؤتمر الذي جمع أكثر من 300 شخصية اعتبارية، وثيقة حرّمت العنف والتطّرف وشكّلت غطاءً للجيش اللبناني في حربه على المجموعات المسلحة التي نادت بالتطرّف ولجأت إلى العنف واتخذت من مخيم نهر البارد حصناً لها.

       بهذا المعنى والاعتبار قام "سُنّة لبنان" بدورهم وواجبهم تجاه القضايا القومية العربية والإسلامية والانسانية، بموازاة قيامهم بواجبهم تجاه بناء الدولة محلّياً حتى يستقرّ الأمر والأمن لجميع أبنائها، وما زالوا يقومون بهذا الدور والواجب في الاتجاهين من دون أن يكون في ذلك أيّ خلل أو تناقض.

       وأمّا لناحية الموقف الأخير من حرب الإبادة الصهيونية المرتكبة بحقّ الشعب الفلسطيني، والتي تحرك لها الضمير الشعبي العالمي عندما عرف حقيقة العدوان والجريمة المرتكبة بحقّ الفلسطينيين، فإنّ "سُنّة لبنان" بالاعتبارات الآنفة الذكر تحركوا على المستويات كافة من أجل القيام بواجبهم الإسلامي والقومي والانساني للتخفيف عن الشعب الفلسطيني. هذا الشعب الذي تحرك لأجله أصحاب الضمائر الحيّة في واشنطن ونيويورك ولندن وباريس ومدريد وغيرها من المدن فيما يريد البعض لـ "سُنّة لبنان" أن يلوذوا بالصمت وكأنّ شلال الدم الفلسطيني يجري في غير جوارهم؛ يريد لهم أن يدسّوا رؤوسهم بالتراب كالنعامة وكأنّ الأطماع الصهيونية التي باتت واضحة وضوح الشمس لا تريد أن تلتهم وطنهم ولبنانهم إذا ما انتهت من التهام فلسطين لا قدّر الله!!

       إنّ الشيء الطبيعي جدّاً أن يبادر "سُنّة لبنان"، بل جميع اللبنانيين، إلى دعم ومساعدة الشعب الفلسطيني لأنّه يدافع في هذه المعركة اليوم عن العمق العربي والإسلامي في بلاد الشام وفي الخليج وفي شمال أفريقيا؛ وإنّ الشيء الطبيعي أن يكون مُفتو "سُنّة لبنان" في مقدمة وطليعة المدافيعن والمنافحين عن كلّ مظلوم فكيف إذا كان المظلوم هو الشعب الفلسطيني، والظالم هي الصهيونية الطامعة بخيرات وثروات العرب وبلادهم؟! فهذا ديدن هؤلاء المُفتين الذين شربوا الأصالة وارتووا منها، وتربّوا على مبادىء الدين الحنيف، ويعرفون دورهم وواجبهم بشكل جيّد لا يحتاجون فيه لا إلى نصيحة ولا إلى مناشدة. ولم يكن غريباً على مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان هذا الموقف المشرّف في دعم قضية الشعب الفلسطيني، ولا حتى في احتضان الشهداء من أبناء رعيته الذين ارتقوا في درب تقديم الدعم والإسناد للشعب الفلسطيني، فالدار التي يرأسها معروفة بتاريخها ومواقفها المشرّفة التي ترفع رأس اللبنانيين والأمة جمعاء؛ كما وأنّ مواقف إخوانه مفتي المناطق لا تقلّ أصالة وكرامة عن موقف صاحب السماحة، وهي تجسد التعبير الحقيقي والوجدان والضمير الذي يختلج قلوب كل صاحب وجدان وضمير. وأنّ هذه المواقف لا تتعارض أبداً مع مبدأ ومنطق قيام الدولة والنهوض بمؤسساتها، أو مع فكرة الهيمنة عليها أو الذهاب إلى الدويلة بدلاً منها؛ فمفتي الجمهورية، والمفتون، ومعهم كلّ "سُنّة لبنان" على تنوّعهم وأفهامهم، وعدد غير قليل من اللبنانيين يتمسّكون بالدولة وبمؤسساتها لأنّها الأساس في فكرة التزام القضايا القومية والانسانية.

       وأمّا الحديث عن استغلال لـ "سُنّة لبنان" من قبل أطراف معيّنة دولية أو إقليمية أو حتى عربية، فهذا ما دحضه التاريخ عندما حاول أقرب الأقربين أن يمارس هذا الاستغلال والاحتواء ولم يفلح بذلك، لأنّ "سُنّة لبنان" يتمتعون بمقدار كاف من الحكمة والمعرفة والتجربة التي لا تسمح لا لصديق ولا لعدو استغلالهم أو التأثير عليهم أو سوقهم في اتجاهات لا يريدونها.

     بهذه الاعتبارات سيظلّ "سُنّة لبنان" حارسي القضايا القومية، وحاملي لواء النهوض بالدولة، وسيظلّ مُفتوهم رمز الأصالة والكرامة والانفتاح والضامن لبقاء القيم الإسلامية العربية التي ميّزتهم بالريادة والقيادة والمسؤولية.

د. وائل نجم