العدد 1656 /19-3-2025
د. وائل نجم
استفاق الناس في المنطقة العربية على جريمة ومجزرة
جديدة اقترفها العدو الإسرائيلي بحقّ أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة عندما غدر
بالمدنيين الآمنيين وتسلّلت طائراته الحربية وسط الظلام ليلة الاثنين - الثلاثاء
لتلقي حمماً من النار والحديد على الفلسطينيين وهم ينامون مع أبنائهم في تلك الخيم
التي لم يعرفوا سبيلاً للحصول عليها وهي بالكاد تأويهم من برد الشتاء. أغار عليهم
وأعمل فيهم صواريخه الثقيلة والكبيرة مخلّفاً أكثر من أربعمئة شهيد من الأطفال
والنساء والعزّل، وليأتي بعد ذلك المجرم ويتحدّث عن أنّ ذلك ليس سوى مجرد بداية
فحسب.
ارتكتب الاحتلال جريمته تحت ذريعة وحجّة إطلاق
سراح الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية، وقتل هذا العدد الكبير من الشهداء، فهل يحقّ
للأسرى أن يعيشوا بنعيم وحريّة ولا يحقّ للفلسطينيين أن يعيشوا بالحدّ الأدنى من
مقوّمات الحياة الكريمة؟! هل أنّ حياة الأسرى الإسرائيليين أثمن من حياة
الفلسطينيين؟! يبدو أنّ ذلك مقبولاً عند ما يُعرف ويُسمّى بـ "المجتمع
الدولي" والأمم المتحدة، وإلاّ كيف يسمح هذا "المجتمع" الذي يتغنّى
بحقوق الإنسان بهذه الجرائم الفظيعة ولا يُحاسِب عليها؟!
الحقيقة أنّ الاحتلال الذي ارتكتب هذه المجزرة
الجديدة وقتل هذا العدد من الشهداء عبّر كما كلّ مرّة عن نواياه تجاه شعوب المنطقة
بشكل عام، وكشف مرّة جديدة، لمن لم يكتشف بعد، عن وجهه القبيح، وحجم وكميّة الحقد
والكراهية التي يحملها في قليه تجاه العرب والمسلمين من أبناء الأرض، فضلاً عن
إقراره بالفشل الذريع في كلّ ما قام به لتحقيق أهداف حربه وعدوانه على غزّة، وما
المجزرة الأخيرة إلاّ حالة تعبير عن إنكار و"هروب إلى الأمام" بعد
إخفاقه في الضغط على المقاومة الفلسطينية لدفعها لتقديم تنازلات تقضي على مستقبل
الشعب الفلسطيني، ولكسر إرادة هذا الشعب الذي وقف إلى جانب مقاومته على الرغم من
حجم الثمن الذي دفعه جراء هذا الصمود والموقف. المجزرة هي حالة "هروب إلى
الأمام"؟! نعم ذلك، بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، وهي استغلال رخيص لدماء
الفلسطينيين من أجل تحقيق أهداف سياسية خاصة وشخصية لقادة كيان الاحتلال وهو ما
صرحّت به ما تُسمى عندهم بـ "المعارضة"، وقد ظهر ذلك من خلال عودة
السياسي المتطرف، إيتمار بن غفير، إلى الحكومة وهو الذي كان يشترط استئناف الحرب
والعدوان على غزة من أجل العودة إلى الحكومة.
في مقلب آخر من حدود لبنان الشرقية والشمالية تجري
حالة هروب أخرى إلى الأمام ولكن بشكل مختلف وعناصر مختلفة.
قبل أيام فُتحت الجبهة الشرقية مع الجيش العربي
السوري وحصلت اشتباكات وتبادل لإطلاق النار عبر الحدود سقط فيها عدد من أفراد
الجيش السوري. جرى تبادل الاتهامات بالمسؤولية عن هذه المواجهات والاشتباكات.
الفاعل من الجانب السوري معروف ولا ينكر عمله، وهو الجيش والقوات المسلحة السورية.
أمّا من الجانب اللبناني فالمشهد مختلف، الجيش اللبناني ليس عنصراً أساسياً في
المشهد، بل يعمل على ضبط الوضع من خلال الإجراءات الميدانية من ناحية والاتصالات
السياسية مع الحكومة السورية من ناحية ثانية. الفاعل من الجانب اللبناني غير معروف
حتى الآن؛ حزب الله نفى مسؤوليته عمّا يجري، والحديث يجري عن عشائر تارة، وعن رعاة
ماشية تارة أخرى، وعن مهرّبين وفلول للنظام السوري مرّة ثالثة،
"والطاسة" يظنّ البعض أنّها "ضائعة" ولكن الحقيقة يعرفها
الجميع ولا تحتاج إلى دليل، فهي من الأشياء التي "دليليها منها وفيها".
الحقيقة أنّ هناك ممارسة لحالة إنكار و"هروب إلى الأمام" تماماً كما في
حالة غزّة، بعد الفشل والإخفاق وعدم الاعتراف بالواقع الجديد، والذهاب نحو خلط
الأوراق حتى لو أدّى ذلك إلى إحراق "البصرة" بما فيها ومن فيها.
هناك من يريد أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء،
وهي لن تعود، لأنّها بعكس الطبيعة وبعكس نواميس الحياة، ولذلك قد تكون الأثمان
كبيرة وضخمة، وقد يكون المستقبل ثقيلاً على الجميع.
على كلّ حال، حالات الهروب إلى الأمام لا تلغي
الحقائق ولا تُخرج من الأزمات، هي مجرد أوهام يعيشها أصحابها إلى حين، ولكنّهم
لاحقاً يدفعون بسببها أثماناً طائلة وكبيرة جدّاً، ولكنّهم لا يدركون.
د. وائل نجم