العدد 1651 /12-2-2025

عامر شماخ

في يوم (12 من فبراير 1949م) تم اغتيال حسن البنا، وقصة هذا الاغتيال: أنه بعد عشرين يومًا من صدور الأمر العسكري بحل الإخوان المسلمين، تم اغتيال محمود فهمي النقراشي، رئيس الوزراء، وكان الحادثان: حادث الحل وحادث الاغتيال، كفيلين باعتقال كل من تعرفه الحكومة من الإخوان.. ولقد أضيف إلى الحادثين حادث آخر جعل الأمور أكثر تعقيدًا، وهو محاولة نسف محكمة الاستئناف؛ لما بخزانتها من أوراق تدين الإخوان في قضية السيارة الجيب- حسبما رأى الذي حاول نسف هذه المحكمة.

في ظل هذه الأجواء، تركت الحكومة حسن البنا طليقًا، بعدما جردته من إخوانه وأهله وسلاحه وسيارته وقلمه.. ولقد كان البنا على استعداد لفعل أي شيء، في مقابل الحفاظ على وحدة البلاد وإطلاق سراح الإخوان، وقد سعى سعيًا حثيثًا لدى الحكومة من أجل إصلاح ما فسد، سواء ما قامت به الحكومة من إغلاق دور الإخوان واعتقال أعضاء الجماعة، أو ما قام به نفرٌ متهور من الشباب الذي انحرف عن المناهج والأفكار التي يدعو إليها البنا وجماعته، حين أقدموا على قتل النقراشي ومحاولة نسف المحكمة.

لقد طلبوا منه أن يكتب بيانًا يدين قتل النقراشي، فكتب، ثم أمروه بكتابة بيان آخر يدين حادث نسف المحكمة، فكتب، واحتفظوا به- أي بالبنا- كي يغدروا به، في الزمان والمكان المناسبين.

كانت هناك مراقبة دائمة من البوليس السياسي لمنزل المرشد العام، وكان هناك رفض قاطع لطلباته، بزيارة إخوانه بالمعتقل، أو بالإفراج عنهم، أو بمساعدته في تنقية الأجواء وتهدئة الحال؛ لكن فجأة تغير موقف الحكومة؛ حيث سمحت له بمقابلة أعضاء مكتب الإرشاد.

كان حلقة الوصل بين البنا والحكومة هو الأستاذ محمد المناغي- العضو المؤسس لجمعية الشبان المسلمين وقريب إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء- الذي أرسل في طلب المرشد ليبلغه بهذا التطور الإيجابي الذي قد يفيد القضية ويقود إلى حل الأزمة المتصاعدة.

بعد مقابلة المرشد العام للأستاذ الناغي في مقر جمعية الشبان المسلمين، غادر الأخير الجمعية الساعة الثامنة إلا عشر دقائق من مساء ذلك اليوم (12 من فبراير 1949م)، وحوالي الساعة الثامنة والنصف خرج المرشد وبصحبته الأستاذ عبد الكريم منصور (زوج شقيقته)، ومعهما الأستاذ محمد يوسف الليثي (رئيس قسم الشباب بجمعية الشبان المسلمين والرسول الذي أرسله الأستاذ الناغي إلى الشيخ البنا ليقابله بالجمعية)، وقد طلب الليثي من أحد سعاة الجمعية استدعاء تاكسي، فجاءت السيارة وركب فيها المرشد، وعلى يساره زوج شقيقته، ولم تكد السيارة تبدأ في السير حتى انقض عليها الجناة.. لقد فتح أحدهم باب السيارة من ناحية عبد الكريم منصور، فقاومه، إلا أن الجاني تغلب عليه وضربه بالمسدس الذي هشم زجاج السيارة، ثم ضربه مرة أخرى فأصابه في ساعده، ثم قام الجاني الثاني بضرب الإمام البنا بالرصاص، إلا أن البنا نزل من السيارة وأخذ في العدْوِ وراءه، وقد التقط البنا أرقام السيارة التي فر بها الجناة وعاد إلى زوج شقيقته فأبلغه الرقم.

لقد كانت جراح المرشد بسيطة وعلاجها سهلاً، في حين كانت إصابة زوج شقيقته خطيرة، حيث لم يستطع الرد على الطبيب حين سأله عن عنوانه، فتولى البنا الرد عنه؛ لكن بعد ساعات أعلنت وفاة البنا.. لقد صدر أمر عالٍ بترك البنا دون علاج.. تنزف جراحه حتى يموت.

ثم جاءت الطامة الكبرى، بحفظ التحقيق في القضية وقيدها جناية ضد مجهول.

لقد تمت الجريمة بتخطيط من رئيس الحكومة ووزير الداخلية، بتوجيه من الملك وحاشيته ووكيل الداخلية للأمن العام، ومدير المباحث الجنائية بالوزارة، أما المنفذون فكانوا ثلاثة مخبرين من الصعيد.

كيف كانت جنازة الإمام؟

كانت جنازة الإمام الشهيد حسن البنا، مشهدًا من الغرابة والإثارة في آن واحد، لقد أصر الظالمون على أن تكون جنازة القائد الذي تبعه الملايين أشبه بجنازة رجل مات في صحراء ليس بها أحد.. لقد قبضوا على المعزين، ومنعوا الصلاة على جثمان الفقيد، ومنعوا تلاوة القرآن على روحه.

نُقلت جثة الإمام إلى بيته في سيارة تحرسها سيارات مملوءة بفريق من رجال البوليس المسلحين.. وفي أحد شوارع الحلمية وقفت القافلة ونزل الجند فأحاطوا ببيت الإمام الفقيد ولم يتركوا ثقبًا ينفذ إليه إنسان إلا سدوه بجند وسلاح.. أما والد الإمام الذي جاوز التسعين عامًا فقد عرف بخبر وفاة ولده ساعة مقتله، وقد ظل يردد: سبحانك وعدالتك يا ربي.. لقد قتلوا ولدي، وكان أشقاء الفقيد جميعًا داخل المعتقلات.

فتحوا الباب وأدخلوا الجثة وقالوا لوالده المكلوم: لا بكاء ولا عويل، بل لا مظاهر حداد، ولا أحد يصلى عليه سواك.. وظل الحصار مضروبًا حول البيت، بل حول الجثة نفسها؛ لا يسمحون لإنسان بالاقتراب منها.. وقام والده بإعداد الجثة للدفن، ثم أنزلت الجثة ووُضعت في النعش.. وبقيت مشكلة من يحملها إلى مقرها الأخير.

يضيف والده: طلبت إلى رجال البوليس رجالاً يحملون النعش فرفضوا، قلت لهم: ليس في البيت رجال، فأجابوا: فلتحمله النساء.. وخرج نعش الفقيد محمولاً على أكتاف النساء!

ومشت الجنازة الفريدة في الطريق، فإذا بالشارع كله قد امتلأ برجال البوليس، وإذا بعيون الناس من النوافذ والأبواب تكاد تصرخ من الحزن والألم والسخط على الظالمين.

وعندما وصلت الجنازة إلى مسجد قيسون للصلاة على الفقيد، كان المسجد خاليًا حتى من الخدم.. ووقف والده يصلى ودموعه منهمرة، لم تكن دموعًا بل كانت ابتهالات إلى السماء أن يدرك الناس برحمته.

ويضيف الوالد: ومضى النعش إلى مدافن الإمام الشافعي، فوارينا التراب هذا الأمل الغالي، وعُدنا إلى البيت الباكي الحزين، ومضى النهار وجاء الليل ولم يحضر أحد من المعزين؛ لأن الجنود منعوا الناس من الدخول، أما الذين استطاعوا الوصول إلينا للعزاء فلم يستطيعوا العودة إلى بيوتهم، فقد قُبض عليهم وأودعوا المعتقلات إلا شخصًا واحدًا هو مكرم عبيد باشا الذي كان يتحدى الظالمين.

 

 

أما بعد دفنه -رضي الله عنه- فقد حدثت مهازل من جانب الظالمين الذين كانوا يحسبون كل صيحة عليهم، فإنه لما تم دفن الإمام أقاموا على قبره الحراسات الكثيفة، كأنهم يخافونه حيًّا وميتًا، بل كانوا يفتشون كل جثة جديدة في طريقها إلى المقابر خوفًا من أن تكون جثة حسن البنا قد قامت من قبرها، وقبضوا على كل من يلبس السواد، واتهموهم (بالحزن) على حسن البنا! بل اتهموا رجلاً بقراءة الفاتحة على روح الشهيد عندما مرت جنازته عليه وهو ينظر إليها وأولاده من نافذة منزله، وقد أوسعوا الرجل ضربًا وأهانوه كثيرًا.. وشن البوليس حملة عنيفة على المساجد، فكانوا لا يسمحون لأحد بصلاة السنن، بل لم يسمحوا لأحد بالتطويل في الصلاة وإلا عرّض حياته للخطر وأسرته للتشريد والألم.

محاكمة الجناة

في عهد وزارة حسين سري، ثم في عهد وزارة الوفد، استأنفت النيابة التحقيق في القضية، ولم تسفر التحقيقات عن شيء.

ولما وقع انقلاب يوليو، أمر قادتها بالقبض على الأميرلاي محمود عبد المجيد وكان محافظًا لجرجا، كما أمروا بالقبض على باقي المتهمين، وأودعوا السجن الحربي.. ثم تولت دائرة الجنايات نظر القضية في 10 من نوفمبر 1953م، وقد تنحت هذه الدائرة عن نظر القضية في إحدى جلساتها (19/11/1953).. ثم تولت دائرة أخرى نظر القضية في 16/4/1954، وانتهت من نظرها يوم 7 من يوليو 1954م، وبلغ عدد جلساتها 34 جلسة، سمعت خلالها 33 شاهدًا، وقد نطقت المحكمة بأحكامها في القضية يوم 2 من أغسطس 1954م، حيث قضت بمعاقبة أحد القتلة بالأشغال الشاقة المؤبدة، واثنين منهم بالأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر عامًا، وبحبس محمد الجزار، ضابط البوليس السياسي، سنة واحدة، وبتبرئة باقي المتهمين.