عصام تليمة
مرت منذ أيام ذكرى استشهاد عملاق الفكر الإسلامي الأستاذ سيد قطب رحمه الله، الذي توفي يوم 29 آب سنة 1966م. وسيد قطب شخصية يثور حولها الجدل الدائم، وحول فكره بوجه عام، وفكرته الخاصة بموقفه من المجتمع، والحكم عليه بالجاهلية، وهل كان سيد قطب يكفر المجتمع أم لا؟ وعندي شهادة لم تعلن من قبل بشكل مفصل، عن موقف سيد قطب من التكفير. وركنا الشهادة هذه شخصان مهمان بالنسبة إلى الشهيد سيد قطب، فالشاهد الرئيس فيها رجل جنائي، كان مسجوناً بتهمة القتل العمد عدة مرات. والركن الآخر، هو شقيقه الأستاذ محمد قطب رحمه الله.
في صيف عام 1989م كنت قد بدأت ارتقاء المنابر لخطبة الجمعة في مصر، وكان معظم الخطباء لا يودّون الذهاب للخطبة في مساجد يصلي فيها الفلاحون والأميون، فالكل يرغب في مساجد ذات مستوى تعليمي عال، وجمهور كبير. بيد أني كنت أرحب بالذهاب لمثل هذه الأماكن، وذهبت إلى منطقة تتبع مركز أوسيم بمحافظة الجيزة، تسمى (عزبة غيضان)، يسكنها من نطلق عليهم (العرب)، وهي قريبة من منطقة 6 أكتوبر قرب القاهرة، خطبت الجمعة، ونحن نعلم أن هذه المنطقة فيها عائلة تسمى (عائلة علوة) سموا بذلك على اسم أمهم، التي ربتهم وهم أيتام، ورأت من ظلم المجتمع لهم، فغرست فيهم مبدأ الدفاع عن النفس، وألا يكونوا لقمة سائغة للمجتمع، فحملوا السلاح، وأخذوا حقهم بيدهم، وأخذوا أراضي من الدولة بالقوة ووضع اليد. خطبت الجمعة، وفوجئت بأكبرهم سناً الحاج خليل علوة رحمه الله يتقدم نحوي للسلام علي، والحفاوة بي، ودعاني للغداء معه.
ذهبت مع الرجل الذي كان يهابه الجميع، وبداخلي مئات الأسئلة حول شخصيته، والسؤال الأهم: كيف بدأت رحلته مع الصلاة والحفاظ عليها، ومن ذا الذي دعاه إليها. فسألته بعد أن عرف شخصي، وكان يعرف أمي كما يعرفها أهل المنطقة، فقد وقفت أمي مرة وقد همّوا بقتل اثنين من عائلتنا، فوقفت أمام أحدهم وهو يصوّب سلاحه نحوهما، بعد أن أطلق أول رصاصة على أحدهما، ومن عاداتهم وأخلاقهم ألّا يصوّب السلاح في وجه المرأة، فانسحبوا بأسلحتهم احتراماً لوقوف امرأة حالت بينهم وبين من أرادوا قتله، فكانت سبباً في نجاة اثنين من أقربائها من موت محقق.
كانت مفاجأتي في إجابة الرجل القاتل المحترف، أن من علّمه الصلاة حسب عباراته وقوله لي: لقد علمني الصلاة شيخ اسمه سيّد قطب. فسألته: هل تعرف سيد قطب؟! قال: نعم، لقد كنت مسجوناً معه آخر شهور حياته، حتى تنفيذ حكم الإعدام فيه، وكان سريري مقابلاً لسريره مباشرة. حكى لي الرجل كثيراً من ذكرياته مع سيد قطب، تفاصيل عن تعذيبه لم تكتب، وتفاصيل عن حياة سيد قطب أواخر أيامه، وكيف ودعه ليلة إعدامه، وقال له: يا خليل نلقاك في الجنة إن شاء الله.
ومن المواقف المهمة التي حكاها لي: أنه ذات يوم جاءه بعض الإخوان: عمر التلمساني، وعبد المتعال الجابري، وغيرهما، يسألون سيّد قطب: هل صحيح ما بلغنا عنك أنك تكفر المجتمع؟ فقال سيّد: انتظروا، ثم ناداني: يا خليل، فقالت له: نعم يا شيخ سيّد، قال: تعال يا خليل، ماذا تفعل لو أن مسلماً سبَّ لك الدين؟ فقال خليل: أسب له دينه ودين أبوه. فقال سيّد: وماذا تفعل لو سب لك مسيحي الدين؟ فقال خليل: أقطع رقبته ورقبة اللي خلّفوه. فقال سيد: شكراً يا خليل، انصرف. يقول خليل علوه: وأنا أنصرف سمعته يقول للإخوان، هذا الرجل الأمي الذي لا معرفة له بالدين ولا التعمق فيه، استطاع أن يفرق بين المسلم العاصي الذي سبّ له الدين، فكان ردّه بأن يرد له السباب سباباً مضاعفاً، وبين غير المسلم الأصلي الذي يسب له دينه، أفيعجز سيد قطب عن التفرقة بينهما؟ لقد حُملت بضاعتي على حمار أعرج!! يشير بذلك إلى من حملوا فكرته، وفهموها خطأ.
بعدها لقيت الأستاذ محمد قطب رحمه الله، عام 1998م في قطر، حيث كان أستاذاً زائراً في كلية الشريعة بجامعة قطر، وسألته عن أمور كثيرة عن فكر سيد قطب، في حوار طويل، كان منها: أني سألته عن هذه الحادثة، فقال لي رحمه الله: أنت الراوي الوحيد لهذه الشهادة الآن، بعد أن تلقيتها من صديقك القاتل وأنه كان أحد شهودها معهم، وأني بهذا قد جمعت في نقل الشهادة بين اثنين من أبرز شهودها.
هذه شهادة، أسجلها للتاريخ، لتكتمل بها الرؤية مع مواقف وقراءات أخرى لموقف الشهيد سيد قطب من تكفير المجتمع.