العدد 1607 /27-3-2024
جمال نصار
كانت دعوة
الإسلام إلى العلم؛ لأن العلم هو السلاح الفاعل في التمكين لكل أمة، وما تحكّم
فينا الغرب اليوم إلا بالعلم، ومن أهم مظاهر اهتمام الإسلام بالعلم والتعلم، أن
كان أول أمر من أوامره: اقرأ. وحض نبيُّه -صلى الله عليه وسلم- على تعلم العلم
وتعليمه، وجعل مداد العلماء خيرا من دماء الشهداء، ورغَّب الإسلام في طلب العلم
ولو كان هذا العلم في الصين، بل جعل طلبه فريضة على كل مسلم ومسلمة.
فدعوة الإسلام
إلى العلم دعوة فيها صراحة ووضوح، والعلم الذي يدعو إليه الإسلام هو العلم الذي
يدعو إلى التفكير العلمي، بضوابطه ومناهجه وآلياته، وبحسبي دليل قوله تعالى:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ
ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ
النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) (فاطر: 27-28).
وكلام ربنا في
هذا الصدد واضح، وليس أمامنا طريق لاسترداد فاعليتنا الحضارية إلا بالعودة لكتاب
الله تعالى، فنستنطق سننه في الكون، ونتدبر آياته بحثا عن شهود حضاري فاعل، يحمل
الأمة من سباتها إلى يقظة تفتح بها الدنيا كلها كما فعلها المسلمون لنا من قبل.
ولا ينطق بهذا
السفه إلا مغيب العقل مما تعلمه من فلسفات مزيفة، أو جاهل بحقائق الإسلام جهلا
تاما، أو أنه ينطق بهذا الإفك لمصلحة دنيوية، يعلمها القاصي منا والداني.
والقرآن الكريم
أرشدنا إلى أن لله في خلقه سننا، تتبعها يبني الأمم ويقيمها وصية على بقية الأمم؛
وذلك يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علما من العلوم المدونة، لنستمد الهداية منها، وذلك
الواجب الإسلامي يفرض على أمتنا في مجموعها أن يكون فيها قوم يبيّنون لها سنن الله
تعالى في كونه، كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها
القرآن بالإجمال.
ومن أهم السنن
الربانية المطردة في الاجتماع والعمران على الإطلاق: التدرج؛ ذلك أن الإصلاح
والترقي لا ينجح ويثبت إلا إذا تدرج أهله فيه تدرجا، فمحاولة الطفو غرور، وطلب
الغاية في البداية عجز وحرمان، ومراعاة السنن الإلهية، ومسايرة النواميس الطبيعية،
كافية بفضل الله تعالى لبلوغ كل مقصد ونيْل كل مرام.
ولتعليم المسلمين
هذه السنة الربانية تدرج الإسلام في فرض الفرائض، وتحريم الخبائث مراعاة لطبائع
البشر، فكان إعجازا تشريعيا من الله تعالى، كما راعى التدرج في سيادة المجتمعات
بعضها بعضا، وراعى سنة التدرج في ارتقاء الإنسان بذاته إيمانيا، ونفسيا. ومن أوضح
ما راعاه الإسلام مع هذه الطبائع الإنسانية التدرج في التشريع، فقد فرض الفرائض
التي افترضها على الإنسان على مراحل متعددة حتى وصلت إلى الصورة التي بها الآن.
فإذا ما اتبع
المسلمون سنة التدرج في الارتقاء الحضاري والتاريخي سادوا العالم ودام ملكهم؛ فليس
الهدف أن يصل المسلمون إلى تلك السيادة فحسب، وإنما المراد بقاء تلك السياسة في
أيدي المسلمين، فالمحافظة على المجد ليست أيسر من بلوغه، بل قد تكون استدامة
النعمة أصعب من تحصيلها.
إذن فمن الواجبات
الدينية المفروضة على المسلم في كل وقت معرفته بالسنن الإلهية التي سنّها الله
لتيسير هذا الكون؛ لأنها تبصر بكيفية السلوك الصحيح في الحياة حتى لا نقع في الخطأ
والعثار والغرور والأماني الكاذبة، وبذلك ننجو مما حذرنا الله منه، ونظفر بما وعد
الله به عباده المتقين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور: 56).
ولا نكاد ننفك عن
الحديث عن السنن الإلهية – ولا ينبغي – إلا ونتطرق للحديث عن البناء الحضاري؛ لأنه
إذا كان الكون هو الوعاء المكاني لوقوع هذه السنن الإلهية، فإن التاريخ هو الوعاء
الزمني لهذه السنن الإلهية: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ
قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) (الحج:46)؛ إذ السير
في الأرض يُذكِّر بالأمم الخوالي، فيحصل الاتعاظ والادّكار.
ليس ذاك إلا لكون
الشهود الحضاري من دعائم الأمور، والحضارة ليست شيئا عظيما فقط، بل إنها بكليتها
شيء لا يماثله شيء آخر في هذا العالم العضوي، فهي النقطة الواحدة التي يسمو عندها
الإنسان بنفسه فوق قوى الطبيعة.
قد يجد الإنسان
نفسه بين ركام من الصراعات؛ صراع سياسي، وصراع اقتصادي، وصراع ثقافي، وصراع حضاري؛
وإذا كان الصراع السياسي والاقتصادي هو أبرز ما يستلفت النظر في هذه الصراعات، وقد
يبدو للنظرة المتعجلة أخطرها، فهو عند التأمل المتأني المتعمق يبدو أقل خطرا من
الصراع الفكري والحضاري؛ ذلك لأن الظروف السياسية والاقتصادية كثيرة التقلب وسريعة
التبدل تحدث فجأة وتزول – أيضا – فجأة، بحيث تبدو الأمور حين تزول أسباب التغير
السياسي والاقتصادي وكأنه لم يكن.
أما التغير
الفكري والحضاري فهو بطيء في سريانه وفي تفاعله، ولكنه في الوقت نفسه طويل المدى
في تأثيره، وقديما قال علماء الاجتماع: إذا أردت أن تحصد بعد عام فازرع قمحا، وإذا
أردت أن تحصد بعد عشرة أعوام فازرع نخلا، وإذا أردت أن تحصد بعد مائة عام فازرع
فكرا. فبناء الفكر - أي فكر - يحتاج إلى قرون.
فالصراع الحضاري
والفكري ظاهرة كونية، تعمل على مر الزمان واختلاف البيئات، وهو بعض ما يتضمنه قول
الله تبارك وتعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة: 251).
ذلك العناد من
الأقوام التي أنزل الأنبياء لهم مرتبط بثقافتهم، وتلك الثقافة ترتبط بحضارتهم؛ لأن
الثقافة ترتبط بالحضارة ارتباطا وثيقا، فإننا لا يمكن أن نتصور تاريخا بلا ثقافة؛
لأن الثقافة هي الوسط الذي تتكون فيه جميع خصائص المجتمع المتحضر، وهي الوسط الذي
تتشكل في كل جزئية من جزئياته تبعا للغاية التي رسمها المجتمع لنفسه، سواء في ذلك
الحدّاد والفنان والراعي والعالم والإمام وهكذا يتركب التاريخ.
إن تغيير هذا
الفكر العنيد يحتاج من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جهدا شاقا وزمنا طويلا.
ولذلك كان لزاما
على الأنبياء والدعاة من أتباعهم أن يملكوا مقومات التغيير، وتلك المقومات تختلف
باختلاف الزمان والمكان، لكنّ منها ما يكون بمنزلة الأعمدة، وهي:
العلم الشامل،
والتفكير في ملكوت السماوات والأرض، وتكريم الإنسان، والمساواة الإنسانية،
والانفتاح والتعارف بين البشر. تلك المقومات لو امتلكتها أمة من الأمم – ولو كانت
كافرة - لانتصرت في الميدان الفكري والحضاري. وهذا ما عالجته بالتفصيل في كتابي
السنن الإلهية ودورها في البناء الحضاري للأمة.