العدد 1604 /6-3-2024
د. عز الدين إبراهيم
تعوّد الناس ألاّ يتكلموا عن رمضان، أو يتذاكروا
في فضائله، إلا حينما يوافيهم رمضان نفسه، فإذا جاء رمضان، وباشروا صيام أيامه
فعلاً، وجدتهم يختلفون إلى حِلق العلم ليستمعوا إلى الوعاظ وهم يذكّرونهم بأفضال
رمضان، وبركاته، وميادين الطاعة فيه، أما قبل ذلك، ففي الغالب: لا.
وهذا الذي تعوّده الناس من الغفلة عن التفكير في
رمضان إلا حينما يفجؤهم رمضان بمقدمه، لا يليق على حسن الاستقبال لهذا الشهر
الكريم، والتعرض لنفحاته وبركاته من جهة، كما أنه مخالف لما كان عليه النبي صلى
الله عليه وسلم في مثل هذا الظرف من جهة أخرى.
فالمعروف أن الإنسان لا يحسن عمل شيء إلا إذا تهيأ
له نفسيًّا، واقتنع بضرورة عمله، واستبشر فيه الشوق إلى الاضطلاع به، ونكاد نلمح
ذلك في استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لاستقبال شهر رمضان حيث يقول أنس رضي
الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رجب، قال: اللهم
بارك لنا في رجب وشعبان، وبلّغنا اللهم رمضان" فالرسول، إذ يسأل ربه أن يبلغه
رمضان، يلفت الأنظار إلى ما كان في نفسه من الشوق الشديد إلى لقائه، حتى إنه
ليتفكّر فيه قبل مولد هلاله بشهرين كاملين.
ونحن الآن في مستهل رمضان، تفتح أمامنا مجالات
العمل الصالح فيه. ولابدّ لنا لكي نحسن الاستقبال، من أن نتهيأ تهيؤًا كاملاً
لذلك. فنفيق من الغفلة، وننتفض نشاطًا بعد الخمول الطويل، وأمامنا بعد ذلك ثلاثة
أنواع من التهيؤ:
• تهيؤ يتعلق بالإدراك.
• وتهيؤ يتعلق بالعاطفة.
• وتهيؤ يتعلق بالإرادة.
ولا بدّ لنا أن نروّض أنفسنا على هذه الأنواع
الثلاثة من التهيؤ، لأن الاكتفاء بواحد منها لا يحقق المطلوب من حسن التهيؤ
والاستقبال، ولأنها تتساند معًا في النفس الإنسانية فيفضي بعضها إلى البعض الآخر،
فالإدراك يثير العاطفة، والعاطفة تدفع الإرادة، ثم إن في توفر الإرادة ما يزيد
الإدراك وضوحًا وعمقًا، والعاطفة انفعالاً وحدّة.
- إن التهيؤ الإدراكي لاستقبال رمضان يكون باتضاح
مفهوم هذا الشهر الكريم في العقل، والملحوظ أن هناك خطًأ شائعًا في تصوّر هذا
المفهوم، فالناس يتحدثون عن رمضان كما يتحدثون عن فريضة الصيام، وكأن رمضان
والصيام لفظان مترادفان يفيد أحدهما معنى الآخر بلا زيادة أو نقصان.
حقيقة إن التداخل بين شهر رمضان وفريضة الصيام أمر
قائم، ولكن الخلط الكامل بينهما يجعلنا نغفل عن كثير من الخير الذي يرشدنا إليه
الفصل: فينبغي أن نفهم (الصيام) كعبادة من عبادات الإسلام على حدة، وأن نفهم
(رمضان) كشهر مبارك من أشهر العام القمري على حدة، ولا بأس بعد ذلك من الجمع
وإحداث التداخل.
فالصيام عبادة إسلامية، يشير الفقهاء إلى فروع
أربعة لها: فهناك صيام الكفارات، وصيام النذور، وصيام النوافل، وهناك إلى جانب ذلك
الصيام المفروض أيامًا معدودات هي شهر رمضان، فليس صيام رمضان إلا جزءًا من عبادة
الصيام، ومن يراجع مواضع ورود مادة (الصيام) في القرآن يجد أنها وردت في ثلاثة عشر
موضعًا لا يخص صيام رمضان منها إلا أربعة مواضع، والمواضع الأخرى يشار فيها إلى
الصيام بالتعميم تارة، وبالتخصيص لفروع أخرى من الصيام تارة ثانية.
ورمضان شهر مبارك نلمح فيه خمس خصال:
- فهو شهر الفرقان إنزالاً ومدارسة، قال تعالى:
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة:185) وقال ابن عباس:
"وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن".
- وهو شهر الاعتكاف، قال ابن عمر: "كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان، وهو شهر الجود، قال
ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون
في رمضان"، وهو شهر القيام، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه وما
تأخّر"، وهو إلى جانب ذلك شهر الصيام المفروض لقوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ (البقرة:185) فليس الصيام المفروض إلا جانبًا من
جوانب رمضان.
فإذا أدركنا أن الصيام عبادة إسلامية لها فقهها
وفلسفتها الكاملة، وأن الصيام المفروض ليس إلا فرعًا مهمًا من فروع هذه العبادة،
وإذا أدركنا أن شهر رمضان شهر مبارك يشتمل على خصال كثيرة من الخير، منها فريضة
رمضان، أمكننا بعد ذلك أن نجمع بين الصيام ورمضان، ونحن آمنون من أن الخلْط لن
يصرفنا عن جوانب الخير التي أبان عنها الفصل، وبذلك أيضًا يكون مفهومنا عن رمضان
أنضج وأدق.
- ومن التهيؤ الإدراكي لشهر رمضان أن نستعرض ما
ورد في أفضاله وثواب صيامه، فمن ذلك: قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ
لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:185)، ومن ذلك: قوله صلى الله عليه
وسلم: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه"،
وقوله: "أول شهر رمضان رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار"، وقوله:
"إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلّقت أبواب النار وصُفّدت الشياطين"،
وقوله: "إن للجنة بابًا يقال له الريّان، يقال يوم القيامة: أين الصائمون؟
فإذا دخل آخرهم أغلق ذلك الباب"، وقوله: "أعطيتْ أمتي في شهر رمضان
خمسًا، لم يعطهنّ نبي قبلي: أما واحدة، فإنه إذا كانت أول ليلة من شهر رمضان نظر
الله إليهم، ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبدًا. وأما الثانية: فإنّ خَلُوف أفواههم
حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك. وأما الثالثة: فإن الملائكة يستغفرون كل
يوم وليلة. وأما الرابعة: فإن الله عز وجل يقول لجنته: يا جنتي استعدّي وتزيّني
لعبادي أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى داري وكرامتي. وأما الخامسة: فإنه إذا
كانت آخر ليلة من شهر رمضان غفر الله لهم جميعًا. قال الرجل من القوم: أهي ليلة
القدر يا رسول الله؟ قال:لا. ولكن ألا ترى إلى العمال يعملون، فإذا فرغوا من
أعمالهم وفّوا أجورهم".
- إلى جانب التهيؤ الإدراكي، لا بد من التهيؤ
العاطفي، ولكي نستبين قيمة العاطفة فيما نحن بصدده يستحسن أن نطرح سؤالاً هامًا ثم
نجيب عنه. هذا السؤال هو: هل يغير الإدراك السلوك؟
لقد أجاب علماء النفس والتربية المحدثون عن هذا
السؤال بما أجروه من تجارب كشفوا بها عن مدى العلاقة والارتباط بين الإدراك
والسلوك، وأثبتوا أن الإدراك العقلي عامل مهم من عوامل التأثير في السلوك، ولكنه
ليس أهم العوامل ولا أقواها، ومن الأمثلة التي يضربونها بلا إيضاح مقال الطالب
الأمريكي الأبيض الذي حدثه أساتذته عن مشابهته التامة للطالب الزنجي من النواحي
البيولوجية والفسيولوجية والسيكلوجية، وعززوا كلامهم بالإحصاءات الدقيقة عن تحليل
الدم للطالبين الأبيض والزنجي، وأضافوا إلى ذلك ما أضافوا من المعلومات التي تغيّر
إدراك الطالب الأبيض لحقيقة زميله الزنجي، ولكنهم وجدوا بعد ذلك أن النفور ظل
قائمًا بينهما، بما يدل على أن تغيير إدراك الطالب الأبيض لم يؤثر في سلوكه تجاه
الطالب الزنجي.
فلكي ينتج الإدراك سلوكًا لا بد من تعزيزه بأمور
منها الانفعال العاطفي، ومهما يحصل المسلم من معلومات عن شهر رمضان، ومهما يبلغ
تهيؤه الإدراكي له، فإن سلوكه إزاء رمضان لن يتأثر ما لم تمس هذه المعلومات
المدركة جانب الوجدان فيه. ففرق كبير بين أن "نقدِّر" رمضان وبين أن
"نحبه"، وفـرق كذلك بين أن "نتوقع" مقدمه، وبين أن
"نحنّ" إلى لقائـه.
وفي حديث أنس الذي يشير فيه إلى حنين النبي صلى
الله عليه وسلم إلى لقاء رمضان قبل أن يولد هلاله بشهرين ما يدل على أن الرسول
عليه الصلاة والسلام كان شديد الشوق إلى ذلك اللقاء. فانفعل الوجدان به.. ويظل
الرسول على هذه الحال الفريدة من التهيؤ العاطفي، حتى يأتي رمضان، ويتراءى هلاله
في الأفق، فيبلغ الانفعال الوجداني ذروته، ويحيي الرسول المقدم الكريم لرمضان
بالدعاء المأثور: "اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام.
ربي وربك الله. هلال رشد وخير".
- لا بد إذن من تهيؤ عاطفي للقاء هذا الشهر
الكريم، ومن ذا الذي لا يتأثر وجدانه، ولا تستثار مشاعره للقاء شهر تغفر فيه
الزلاّت، وتضاعف الحسنات، فأيما رجل أثقلت الذنوب كاهله، ففي رمضان توبته، وأيما
غافل صدئت نفسه ففي رمضان جلاؤها. وأيما طائع وفقه الله فسبق بالخيرات ففي رمضان
قربانه. فليس هناك إنسان- مهما تكن حاله- إلا وبينه وبين رمضان ارتباط، إن تنبّه
إليه هفت روحه، وتزايد شوقه.
- فإذا نضج الإدراك، وانفعل الوجدان، فلابد بعد
ذلك من تصميم ترتبط به الإرادة "ونية تنعقد عليها العزيمة، ومعنى هذا أن من
تمام التهيؤ لاستقبال شهر رمضان أن يرتب المسلم أحواله، وينظّم شؤونه، ويضع لنفسه
البرنامج الذي يعينه على الطاعة، والخطة التي تقدره على عمل الخيرات. أما أن يظل
التهيؤ مجرد خواطر في العقل، وعواطف في النفس، فذلك ما لا يؤدي إلى نتيجة مجدية.
فمما ينتويه المؤمن في رمضان أن يصوم صيام
العارفين، لا صيام الغافلين، فلا يكتفي بتجنب المفطرات غير الواضحة كالأكل، ولكنه
يتجنب غيرها من المفطرات الخفية: كالسبّ والصخب وقول الزور، ومما ينتويه أيضًا أن
يحرص على قيام المخبتين الذين يخرّون للأذقان يبكون من الخشية، وعلى تسبيح
المتبتلين الذين يرطبون ألسنتهم بالذكر، وعلى جود المحسنين لا تعلم شمائلهم ما تنفق
الأيامن.
- إن النوايا الصالحة تظل أماني ما لم تتجاوز
منطقة القصور في الإنسان إلى الإرادة المنفذة، حسب تنظيم موضوع، ولذلك، فلابد- قبل
مجيء رمضان- من أن يراجع كل فرد ارتباطاته ومهامه، والأعباء التي يضطلع بها، وأن
ينسّق هذه الأمور تنسيقًا عمليًا يمكنه من الاستفادة من الشهر، فإن لم يفعل ذلك
فإن الشهر يفاجئه بأيامه فيجد نفسه مثقلاً بالمواعيد والأعباء التي تعجزه عن تحقيق
ما فكّر فيه واشتاق إليه من الطاعة.
وبعد فإن رحمة الله- برمضان- قريب من المحسنين،
فهل لنا أن نتهيأ بالفكر، والنفس، والإرادة، تهيؤًا يليق بجلال هذه المناسبة،
فنوفق بذلك إلى الخير والبر والرشاد. نرجو ذلك، ونسأل الله أن يعيده.