العدد 1624 /6-8-2024

بقلم : أ.جهاد المغربي

باحث سياسي

عَكَسَ الإعلان عن اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشهيد إسماعيل هنية فجر (31 تموز 2024)، على الأراضى الإيرانية أثناء مشاركته فى فاعليات تنصيب الرئيس الإيرانى الجديد مسعود بزشكيان، والذي جاء بعد ساعات أيضًا من استهداف إسرائيل للقيادي في حزب الله، فؤاد شكر، رئيس الجناح العسكرى لحزب الله، في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، فى 30 تموز 2024 ، بداية لمرحلة جديدة فى مسار المواجهات مع إسرائيل، قال عنها حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبنانى فى خطابه مطلع آب 2024، بأنها "مرحلة تنتهى فيها عمليات إسناد المقاومة الفلسطينية وتبدأ فيها عمليات الحرب المفتوحة".

وفي حين يأمل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، من خلال عملية الاغتيال، زيادة شعبيته في إسرائيل (وهو ما حصل فعلًا بعد جريمتَي الاغتيال)، وانتزاع صورة انتصار ما زال عاجزًا عن تحقيقه في الحرب المستمرة على القطاع منذ عشرة شهور، بحيث يمكنه استخدامه مبررًا لمواصلة الحرب بطريقته إلى حين فرض تصوّره لما يُسمّى اليوم التالي، أو ربما للمضي في اتفاق الهدنة الذي طرحه الرئيس الأميركي جو بايدن في أيار 2024، ويعارضه بعضٌ من أكثر أعضاء حكومته تطرفًا، إلا أنّ عملية الاغتيال أدّى إلى وقوف منطقة الشرق الأوسط، وربما العالم، مترقباً الحدث الكبير وهو الردّ الإيراني وحلفائها الذي يتوقع الجميع حدوثه، ولكن لا أحد يعرف متى يحدث؟ ومكان حدوثه وتداعياته، ويدعو كثير من زعماء الدول في المنطقة وخارجها إلى ضبط النفس وعدم التصعيد، خوفاً من أن تؤدي ردود الفعل المتوقعة إلى تغيير قواعد الاشتباك، والانجرار نحو حرب إقليمية مفتوحة.

احتمالات ما بعد الاغتيال

1- توسع رقعة الصراع العسكري:

يرتبط احتمال توسع رقعة الصراع العسكري بحسابات إيران، وردّها المتوقع على اغتيال الشهيد اسماعيل هنية، ففي ساعات الصباح الباكر التي أعقبت الإعلان عن عملية الاغتيال، اتسمت التصريحات الإيرانية بالانضباط إلى حدّ لافت، حيث لم يُشِر أيٌّ منها إلى ضلوع إسرائيل في العملية. ولم تحمل التصريحات الإيرانية أيّ التزام بالردّ، وبوجه خاص تلك التي صدرت عن الحرس الثوري، ووزارة الخارجية الإيرانية. لكن التوجه الإيراني أخذ منحًى مختلفًا بعد اجتماع مجلس الأمن القومي، الذي شارك فيه قائد الحرس الثوري، وكبار قادة الجيش والداخلية والمخابرات، ونشر حساب المرشد الأعلى علي خامنئي، على منصة إكس، تصريحًا توعّد فيه إسرائيل بما سماه "عقاباً قاسياً"، في حين هدّد بيان صدر عن الحرس الثوري الإيراني بأن "الرد على الكيان الصهيوني سيكون قاسيًا وموجعاً".وأعلن حزب الله على لسان أمينه العام، حسن نصر الله، في 1 آب الجاري، أنه "على العدو ومن خلفه أن ينتظر ردنا".ووصف بيان حماس، في 31 تموز الماضي، اغتيال هنية بأنه "حادث فارق وخطر وسينقل المعركة إلى أبعاد جديدة".

وفي الأيام القليلة الماضية، ثارت أسئلة عديدة بشأن متى يكون هذا الرد؟ وهل سيأتي منفرداً من جانب إيران أو يكون بالتنسيق مع حزب الله اللبناني ووكلائها في العراق وسوريا واليمن؟ وهل يكتفي حزب الله بالاشتراك في عمل عسكري مع أطراف أخرى، أم يُقدم على رد فعل مستقل؟

الطرف الأهم في هذه المعادلة هو إيران، التي تضع يدها على زناد الحرب الكبرى أو الشاملة في المنطقة. فهي دولة إقليمية كبيرة، لها رؤيتها الاستراتيجية لمستقبل المنطقة ولدورها القيادي فيه، ولها حساباتها بشأن التوازنات بين القوى الفاعلة في الإقليم ومع القوى الكبرى في العالم. ولن تقوم إيران بعمل متسرّع خارج عن هذه الحسابات، أو مخالف لعقيدتها العسكرية تجاه إسرائيل، والتي تنهض على ثلاث ركائز:

-الأولى: أن المواجهة مع إسرائيل "طويلة" تعمل فيها إيران على أن تعيش إسرائيل في حالة شعور دائم بالخطر وعدم الأمان، ومن هنا يأتي التزام طهران بسياسة "النفس الطويل" أو ما يُسمى بـ"الصبر الاستراتيجي".

-والثانية: حصار إسرائيل بعدد من التنظيمات المسلحة الموالية لإيران، والتي تستطيع كل منها ضرب العمق الإسرائيلي، مما يُشكل "حلقة من النار"، حسب التعبير الذي ورد في مقال بعنوان "إسرائيل على حافة الهاوية" في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم 1 آب الجاري؛ الأمر الذي يُتيح لإيران اتباع سياسة "الضرب عن بُعد".

-والركيزة الثالثة: هي تحاشي نشوب حرب مباشرة مع إسرائيل؛ إذ تعلم طهران مُقدماً أن واشنطن سوف تشارك فيها إلى جانب تل أبيب، وأن واشنطن قامت فعلاً بزيادة وجودها العسكري في الخليج وشرق المتوسط والبحر الأحمر.

وبالتالي، فإن طهران سوف تقوم بإدارة تصعيد محسوب يمكنها السيطرة عليه، ولا يضطر تل أبيب للرد عليها، وفي هذا السياق، تراهن طهران على عدم فتح جبهة واسعة للحرب الحالية من جهة، ومن جهة أخرى فإنها تسعى للإبقاء على قنوات الاتصال الخلفية مع الولايات المتحدة من خلال المباحثات غير المباشرة التي يجريها الطرفان بشكل غير مباشر في سلطنة عُمان، لضبط مساحة التصعيد وعدم انزلاق الأمور، حسبما ذكرت تقارير غربية. وينفي المسؤولون الأمريكيون عقد تلك المباحثات، لكن ربما يرجع ذلك إلى أسباب انتخابية خاصة بالداخل الأمريكي. بيد أن مؤشرات عديدة ربما ترجّح استمرار التواصل غير المباشر بين الجانبين الأمريكي والإيراني، وقد تستغل طهران تلك المباحثات في إتمام صفقة أكبر وأشمل مع واشنطن تتضمن ملفات نووية وإقليمية، وإن كان هذا الأمر يتوقف بشكل كبير على نتائج الانتخابات الأمريكية.

قيود حزب الله:

سيتعين على حزب الله اللبناني أن يرد على اغتيال قائده العسكري، فؤاد شكر، وهو يمتلك القدرات العسكرية التي تمكّنه من الوصول إلى أهداف اقتصادية حيوية في منطقة الجليل وتل أبيب.

ففيما يتعلق بموازين القوة العسكرية بين إسرائيل وحزب الله، فإن الأولى لديها عامل التفوق الجوي، كما تمتلك قدرات ذكية في عمليات الاستهداف، بالإضافة إلى الاستعمال المكثف للذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف وجمع المعلومات والتجسس على قادة حزب الله ومقاتليه ومواقعه العسكرية. وفي المقابل، لدى إسرائيل بعض نقاط الضعف، ومنها حالة الإنهاك العسكري، مع طول فترة المواجهات لأكثر من عشرة أشهر، وتحديات التحرك البري، والانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى عدم رغبة حلفائها وتحديداً الولايات المتحدة في توسيع جبهة الحرب بالإقليم.

ومن ناحيته، يتمتع حزب الله اللبناني بعدد من نقاط القوة، منها شبكة الأنفاق الأرضية التي قد تعرقل أي تحرك أرضي إسرائيلي، وترفع كُلفة استهداف القوات، فضلاً عن قدرته على إدارة ما يُسمى بـ"حرب العصابات"، وخبرات الحرب التقليدية التي راكمها من خلال العمل مع الجيوش النظامية في الساحة السورية. بالإضافة إلى تحالفاته الإقليمية تحت مظلة المحور الإيراني من العراق واليمن سوريا، والتي ستشكل عامل إسناد له في إطار ما يُعرف بـ"وحدة الساحات".

ومع أن حزب الله يتمتع بمساحة معتبرة من حرية اتخاذ القرار، فإن رد فعله سوف يكون مقيداً بالوضع المتردي في لبنان، وبالتقدير الإيراني للوضع في المنطقة.

وفي ضوء التطورات المرحلية، من المتصور أن هناك ثلاثة سيناريوهات فيما يتعلق بتطورات الوضع على الجبهة اللبنانية، وهي الاجتياح المحدود، وتوسع الحرب (أقل احتمالاً)، والاستمرار في حرب الاستنزاف.

أطراف أخرى:

رغم قيام سكرتير مجلس الأمن القومي في روسيا، سيرغي شويغو، بزيارة لطهران يوم 5 آب الجاري، أو التواصل الصيني واحتمالات التدخل لدعم الحليف الإيراني في حالة قيام الولايات المتحدة بالمشاركة في هجوم على طهران، تبدو أنّ الحرب الإقليمية الشاملة التي يمكن أن تمتد لتشمل المصالح الأمريكية في المنطقة ومصادر النفط والمضائق المائية، فإنها "سيناريو كارثي مروع" ولا يُرجح أن هناك طرفاً يريد أن يتحمل مسؤولية حدوثه.

2- احتمال التوجه نحو اتفاق:

رفع مستوى التصعيد قد يمثّل المرحلة التي تسبق عملية التهدئة، حيث تخشى أطراف إقليمية ودولية عديدة من فقدان السيطرة كليًا على الوضع ودخول المنطقة في مواجهة شاملة تنجرّ إليها الولايات المتحدة ودول غربية أخرى. ويعني هذا أن الضغوط ستزداد خلال الفترة القادمة على نتنياهو للقبول "بصورة الانتصار" الذي حاول انتزاعه من خلال الهجمات التي حصلت في طهران وبيروت والتوجه إلى إبرام اتفاق يُنهي الحرب في قطاع غزة. ويبدو أن نتنياهو فهم ذلك خلال زيارته الأخيرة واجتماعه مع مرشّحَي الحزبين الديمقراطي والجمهوري، كاميلا هاريس ودونالد ترامب، اللذين أصدرا، على الرغم من مزايدتهما على بعضهما في مسألة دعم إسرائيل خلال لقاءاتهما بنتنياهو، مواقف تدعو إلى ضرورة إنهاء الحرب والتوصل إلى اتفاق لاستعادة المحتجزين الإسرائيليين.

وعلى الرغم من أن الوسيط القطري، وعلى لسان رئيس الوزراء الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، تساءل: "كيف يمكن أن تنجح مفاوضات يقوم طرفٌ بقتل من يفاوضه في الوقت ذاته؟"، وما بدت عليه العملية لحركة حماس كأنها محاولة أخيرة من نتنياهو لتوجيه ضربة نهائية إلى مسار التفاوض، وقد تكون كذلك فعلًا، فإن التوصل إلى اتفاق يبقى هو الخيار الوحيد؛ فحركة حماس ومعها بقية فصائل المقاومة وحاضنتها الشعبية لديها مصلحة حقيقية في إنهاء الحرب، في ضوء الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة منذ عشرة شهور. وينطبق الأمر نفسه على بقية الأطراف الإقليمية والدولية التي تتوجس من اتساع نطاق المواجهة وخروج الأمور عن السيطرة.

أما على المستوى الإسرائيلي، فعلى الرغم من أن نتنياهو لا يبدو مهتمًا بالتوصل إلى اتفاق حتى الآن، فإن الخيارات أمامه محدودة؛ فهو لا يبدو اليوم بعد شهور من المحاولات الفاشلة أقرب إلى تحقيق أيّ من هدفَي الحرب، وهما القضاء على حماس وإطلاق الأسرى، في الوقت الذي تتزايد فيه ضغوط الشارع والمؤسسة العسكرية التي باتت تلحّ في طلب هدنة نتيجة التعب والإنهاك المستمرَين.

خاتمة

قد تشكّل عملية اغتيال هنية في طهران نقطة تحوّل في الحرب الدائرة في قطاع غزة منذ نحو عشرة شهور، وقد تفتح الباب واسعًا أمام تصعيد كبير في المنطقة إذا قررت إيران (وحزب الله) الرد على الخرق الكبير الذي تعرّضت له سيادتها من جانب إسرائيل.

أو قد تدفع نحو ممارسة مزيد من الضغوط الإقليمية والدولية على حكومة نتنياهو للذهاب في اتجاه قبول المقترح الذي قدّمه الرئيس بايدن لاتفاق الهدنة منعًا لسيناريو التصعيد الأول، وبالتالي فإنّ إدارة الرد المتوقع من جانب هذه الجبهات على عمليات الاستهداف الأخيرة يُرجح أن يكون وفقاً للمناطق الرمادية للتصعيد دون الحرب الشاملة التي ستكون محكومة بمعادلة صفرية ترتفع معها تكلفة الضرر لكافة الأطراف.

ويعزز هذا التوجه مستوى الضيق الذي باتت تعبّر عنه دول كثيرة حول العالم من سلوك إسرائيل التي تتصرف مثل دولة مارقة باتت تتجاوز أبسط القواعد والأعراف المتوافق عليها لخوض الصراعات والحروب بما فيها قتل الطرف الذي تخوض المفاوضات معه!

9\8\2024