العدد 1656 /19-3-2025

رندة حيدر

سجّلت السياسة الإسرائيلية حيال سورية ولبنان، أخيراً، ذروةً جديدةً من الرياء والنفاق والدجل الدبلوماسي. أولاً، في ما يتعلّق بسورية، اشتدّت الهجمة الإسرائيلية على النظام السوري الجديد برئاسة أحمد الشرع، واستغلّ الإسرائيليون الاضطرابات الأمنية في المناطق الدرزية في سورية لحمل لواء "الدفاع" عن دروز سورية، "وفاءً لالتزاماتهم" حيال إخوانهم دروز إسرائيل، بينما الدورز في إسرائيل أنفسهم ضحيّة سياسة التمييز والإقصاء الإسرائيلية بعد تطبيق قانون القومية، الذي يجعل أيّ إنسان غير يهودي في إسرائيل مواطناً من درجة ثانية. كما تواترت تقارير تتهم الحُكم الجديد بأنه أطلق سراح عديدين من عناصر حركتي حماس والجهاد الإسلامي، الذين كانوا في معتقلات نظام بشّار الأسد، وأن هؤلاء بصدد بناء بنى تحتية عسكرية لمهاجمة إسرائيل من الأراضي السورية. وتذرّعت إسرائيل بعدم الثقة بالنظام الجديد من أجل إقامة منطقة منزوعة من السلاح جنوب دمشق وحتى مدينة درعا، ومنع أيّ عنصر مسلّح سوري من دخولها، بالإضافة إلى إقامة مواقعَ عسكرية إسرائيلية في قمّة جبل الشيخ، المشرف على جزءٍ كبيرٍ من الداخل السوري وسهل البقاع اللبناني. يترافق هذا كلّه مع حملة إسرائيلية شعواء ضدّ النفوذ التركي في سورية، الذي أصبح في المنظور الإسرائيلي لا يقلّ خطراً وضراوةً عن الوجود الإيراني. ويبدو أكثر فأكثر أن الخطّة الإسرائيلية الفعلية حيال سورية تفكيك سورية إلى فيدراليات. ومن خلال تتبّع ما ينشره الإعلام الإسرائيلي بشأن السياسة الإسرائيلية حيال سورية، نرى جليّاً التخبط وفبركة الأكاذيب، واختراع الذرائع، مثل استغلال أحداث الساحل السوري وعمليات القتل الوحشية (استهدفت المدنيين الأبرياء وأثارت روح الذعر في أوساط العلويين في سورية) من أجل التشديد على الارتباط القوي الذي يربط هيئة تحرير الشام، وزعيمها أحمد الشرع، تنظيمَي القاعدة وداعش.

ولا تقلّ السياسة الإسرائيلية حيال لبنان نفاقاً وغموضاً ولعباً على التناقضات. برز إعلان إسرائيل الاتفاق على تشكيل ثلاث لجان مشتركة مهمتها البدء بالتفاوض مع لبنان، من أجل ترسيم الحدود البرّية وحلّ النقاط الخلافية في طول الخطّ الأزرق، وأيضاً دراسة إمكانية الخروج من النقاط الخمس، التي لا يزال الجيش الإسرائيلي يحتلّها في داخل الأراضي اللبنانية. في الوقت عينه، برز تصريح وزير الأمن يسرائيل كاتس (14 مارس/ آذار 2025)، خلال اجتماع حضره رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجديد إيال زامير، أن الجيش الإسرائيلي سيبقى في النقاط الخمس "فترةً غير محدودة"، من دون أيّ علاقة مع المفاوضات التي ستجري بشأنها، وأن التوجيهات المعطاة للجيش هي التصدّي بعنف لأيّ محاولة من حزب الله لإعادة تمركزه في الجنوب، وأنه لا يزال يطالب بنزع سلاح الحزب وانسحابه إلى ما وراء نهر الليطاني.

هل فعلاً يعتقد الساسة الإسرائيليون أن الحُكم والشعب في لبنان سيصدّقان حديث المصالحة الإسرائيلي؟

والسؤال المطروح بقوة: كيف يستقيم الحديث الإسرائيلي عن احتمالات التطبيع بين إسرائيل ولبنان وكلام الوزير كاتس عن استمرار الاحتلال الإسرائيلي فترة غير محدودة؟ وكيف يمكن، مع اشتداد الحملة الإسرائيلية على النظام الجديد في سورية والغارات الجوية التي لا تتوقّف على الأراضي السورية ولبنان بذرائع شتى، أن نصدّق فعلاً حديث التطبيع، الذي يبدو منقطعاً عن الواقع اللبناني انقطاعاً هائلاً؟... تُشيع بعض الأبواق الإعلامية الإسرائيلية الوهم أن هناك فرصة سانحة لحدوث تقدّم في عملية التطبيع مع لبنان مع انتخاب رئيس للجمهورية لا يأتمر بأوامر حزب الله، وتشكيل حكومة لبنانية جديدة رفعت شعار حصرية السلاح في يد الدولة، وأن ما شهدته الساحة الداخلية اللبنانية من تطوّرات جرّاء الضربات العسكرية، التي وجّهتها إسرائيل إلى القدرات العسكرية للحزب، أنشأت ما يسمّونه "تقاطع مصالح". وفي الواقع، فإن هذا التوجّه لا ينحصر بالأوساط المقرّبة من وزير الأمن ومن رئيس الحكومة الإسرائيلية، اللذين يعبّرعن مواقفهما المراسلون العسكريون في الصحف الإسرائيلية، بل وصل أيضاً إلى أوساط أكاديمية معروفة بجدّيتها ورصانتها، مثل كلام الخبيرة في الشأن اللبناني في معهد دراسات الأمن القومي، أورنا مزراحي، التي تحدّثت، أيضاً، عن "مصلحة مشتركة" بين إسرائيل والحكم في لبنان، تتجلّى في "المحافظة على وقف إطلاق النار، ومنع تعافي حزب الله عسكرياً وعلى صعيد الداخل اللبناني".

السياسة العدائية الإسرائيلية حيال سورية، والحديث الإسرائيلي عن التطبيع مع لبنان مع الإصرار على استمرار الاحتلال أراضيه، وجهان لسياسة إسرائيلية واحدة هدفها زرع الفوضى في البلدَين، فمعاداة نظام الشرع والدور التركي ورفع شعار حماية الأقليات في سورية، دروزاً وأكراداً وعلويين، مثله مثل الحديث عن "تقاطع مصالح" مع الحكم اللبناني الجديد، هدفه تأجيج الخلافات وزرع الفرقة والاقتتال الداخلي والتشرذم وعدم الاستقرار.

لم ينسَ اللبنانيون تجربة اتفاق السلام مع إسرائيل، الموقّع في 17 مايو/ أيار 1983 (في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان في 1982، وخروج مقاتلي المقاومة الفلسطينية من لبنان)، الذي أُلغي بعد أقلّ من عام على المصادقة عليه جرّاء الرفض الشعبي الواسع له. فهل فعلاً يعتقد الساسة الإسرائيليون أن الحُكم والشعب في لبنان سيصدّقان حديث المصالحة الإسرائيلي، بينما جزء من الجنوب لا يزال محتلاً ومدمراً، والمسيّرات الإسرائيلية تحوم فوق رؤوس الناس وتواصل صيدها قادة حزب الله، مع الأضرار الجانبية كلّها، التي يدفع المدنيون اللبنانيون ثمنها من حياتهم؟