العدد 1639 /20-11-2024

رشا أبو زكي

يتحدث الجيل الذي عايش الحرب الأهلية في لبنان عن الليالي التي كانت الأسر تسهر فيها على ضوء الشمع، وكانت الاعتداءات الإسرائيلية تطاول شركة الكهرباء والشبكات في المناطق، مما وضع ترابطاً وثيقاً بين الحروب واختفاء الكهرباء. إلا أن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان فكّت هذا الترابط بشكل مطلق.

يصل التقنين الكهربائي في لبنان منذ أكثر من أربعة أعوام إلى أكثر من 20 ساعة يومياً، حيث استلمت المليشيات في المناطق قطاع توفير الطاقة عن طريق إدارة غالبية المولدات الخاصة منذ انكشاف عملية النهب الكبرى للاقتصاد اللبناني في العام 2019. وارتفعت فواتير المولدات بالطبع بسبب احتكار توفير الخدمة، بحيث لا يوجد بدائل سهلة للبنانيين من جهة، ونتيجة ارتفاع ساعات التغذية من المولدات من جهة أخرى مع الانقطاع شبه التام للكهرباء العامة. هذه المرة الوضع مختلف؛ فالفساد هو سبب انقطاع الكهرباء الأساسي، لا الحرب.

المدهش أن وزارة الطاقة التي تطالب بالمساعدة والدعم الدولي، تشكو عبر وزيرها من أن الخسائر في قطاع الكهرباء والمياه بسبب الحرب بلغت حوالي 400 مليون دولار، "وهي مقسّمة على الخسارة الناتجة من الكلفة الإضافية للإغاثة السريعة، وتلك للبنى التحتية للاستثمار لتحسين الخدمة في أماكن النزوح، وتلك للبنى التحتية المباشرة نتيجة العدوان، وتلك المالية من حيث الجباية".

المتتبع لهذه التصريحات من الخارج يظن أنه كان هناك قطاع كهربائي قبل الحرب، وتضرر بسببها، فانقطعت الكهرباء عن الناس، والآن تطالب الوزارة بالمساعدة في إعادة النور إلى البيوت. إلا أن الواقع ليس كذلك أبداً.

الواقع يقول إن أزمة الكهرباء في لبنان مستمرة منذ أكثر من 34 عاماً، وخلال كل السنوات الماضية لم يقم أي وزير استلم القطاع بتوفير كهرباء دائمة للبيوت في كل لبنان، حيث إنه حتى العاصمة بيروت كانت تشهد انقطاعاً للتغذية لمدة ثلاث ساعات قبل انكشاف الأزمة النقدية منذ خمس سنوات، فيما كان التقنين يصل إلى أكثر من 16 ساعة خارجها.

وخلال 34 عاماً حتى اليوم، تعاقب 17 وزيراً على وزارة الطاقة، أو 15 وزيراً في حال بدء التعداد منذ العام 1996 حين بدأت مشاريع إعادة تأهيل معامل الكهرباء التي دمرتها الحرب. ومنذ العام 1996، كانت حصة تكتل التغيير والإصلاح، الذي ينتمي إليه وزير الطاقة الحالي، 16 عاماً من إدارة قطاع الكهرباء. بينما تتوزع السنوات الباقية بين خمس سنوات لوزراء مستقلين، وأربع سنوات لحركة أمل، وثلاث سنوات لحزب الله.

وتعاقبت منذ العام 1996 على القطاع 15 حكومة، ثلاث حكومات لرفيق الحريري، حكومة لسليم الحص، حكومة لعمر كرامي، حكومتان لنجيب ميقاتي، حكومتان لفؤاد السنيورة، حكومة لتمام سلام، وثلاث حكومات لسعد الحريري، حكومة لحسان دياب، والآن حكومة نجيب ميقاتي. وتمثلت في هذه الحكومات كل الأحزاب الفاسدة والفاشلة التي أدت لإيصال لبنان إلى مرحلة الانهيار والإفلاس.

خلال تلك السنوات المعتمة، عرف اللبنانيون عشرات المشاريع الكهربائية التي فشلت كلها على مذبحة الفساد الكبرى؛ مليارات الدولارات دُفعت لإطلاق هذه المشاريع، وبين 1992 و2018، شكّلت التحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان أكثر من 40 مليار دولار من الدين العام في البلاد، يزاد إليها مليارات إضافية حتى 2024. كل هذه الأموال لا أثر لها اليوم، وكأنها لم تكن. والمدهش في كل هذا أن السياسيين الذين تعاقبوا على الوزارة يلقون كل اللوم على دعم فاتورة الكهرباء خلال فترة ما قبل الأزمة النقدية، ويتناسون تحويل مؤسسة الكهرباء إلى مرتع للتوظيف السياسي والحزبي، ويغضون الطرف عن كل المشاريع الفاشلة وصفقات الفساد التي نهبت القطاع، ويعتبرون أن هذا الدعم هو سبب الشقاء، وكأن المواطنين الذين "كانوا يتنعمون" بفاتورة غير مرتفعة هم سبب بلواهم الذاتية. إلا أن الواقع يقول إن هؤلاء اللبنانيين كانوا يدفعون كلفة الدعم من جيوبهم من خلال نفقات الموازنة، وليس من جيوب الوزراء ومشغليهم من زعماء المليشيات والمافيات، ورغم ذلك كان المواطنون يحصلون على خدمة رديئة وساعات تقنين طويلة.

وتشير أرقام وزارة الطاقة ذاتها في العام 2011، إلى أن كلفة انقطاع الكهرباء المباشرة على الاقتصاد اللبناني بلغت 6 مليارات دولار سنوياً، ما يعني 168 مليار دولار خسرها الاقتصاد حتى اليوم خلال 28 عاماً من العتمة.

وكانت فاتورة المولدات تبلغ ملياراً و700 مليون دولار سنوياً على المواطنين، فيما ارتفعت هذه الكلفة بعد الأزمة الشاملة في صيف 2021، عندما عجزت الدولة اللبنانية عن توفير العملة الأجنبيّة اللازمة لشراء الفيول. وأصبحت المولدات الخاصة تقتطع ما بين 21% إلى 88% من دخل الأسر، بحيث ترتفع النسبة مع هبوط الدخل، وفق أرقام هيومن رايتس ووتش. ما يعني أن اللبنانيين دفعوا خلال السنوات الماضية أكثر من 50 مليار دولار لمولدات الكهرباء التي تديرها غالباً المليشيات ذاتها التي تسيطر على السلطة. وفوق ذلك تأتي التحويلات من الموازنة إلى مؤسسة الكهرباء، لتضاف إليها صفقات الفساد والمشاريع الفاشلة التي كلفت اللبنانيين مليارات إضافية من الدولارات، منها مشاريع تأهيل المعامل، واستئجار البواخر التركية، وشركات مقدمي الخدمات، واللمبات الموفرة، والفيول المغشوش، والسخانات الشمسية وغيرها.

الأدهى أنه بعد انكشاف الأزمة النقدية في العام 2019، تطور دور وزارة الطاقة؛ فبدلاً من توفير الكهرباء أصبحت تصدر جدولاً ينظم أسعار المولدات الخاصة، مولدات المليشيات، التي تفرض على كل أسرة ما لا يقل عن 80 دولاراً شهرياً بالمتوسط، الأسرة ذاتها التي لا تزال تدفع فواتير الكهرباء العامة المختفية، حيث يتم تحويل 40 مليون دولار شهرياً من جباية الفواتير إلى الخزينة بحسب وزارة الطاقة.

مذهل هذا البلد، مذهل هذا القطاع، مذهلون وزراء الطاقة. خفة لم توقفها حرب دامية يواجهها اللبنانيون، خفة لا يمكن أن يثقلها سوى سجن يجب أن يحوي كل من منع الكهرباء عن الناس بسبب الفساد والسرقة والمشاريع الفاشلة المكلفة، بعقاب الحبس مدى الحياة بلا ضوء ولا حتى شمعة، وتحت صوت درون لا تغادر محيط السجن ولو للحظة.