العدد 1608 /3-4-2024
علي نور الدين
أظهرت آخر الأرقام التي
نشرتها إدارة الإحصاء المركزي في لبنان ارتفاع مؤشّر أسعار المستهلك بنسبة
123.21%، لغاية أواخر شهر فبراير/ شباط الماضي، مقارنة بالفترة المماثلة من العام
السابق.
وبذلك، عكست الأرقام
استمرار ظاهرة ارتفاع الأسعار الجنونيّة، لمختلف أنواع السلع والخدمات، رغم تحسّن
المؤشّرات النقديّة المرتبطة بسعر صرف الليرة اللبنانيّة وحجم الكتلة النقديّة
المتداولة بالعملة المحليّة.
وهذا ما يطرح السؤال
البديهي عن الأسباب التي تدفع باتجاه استدامة هذا التضخّم على هذا النحو، حتّى هذه
اللحظة، رغم التحوّلات النقديّة الإيجابية.
من المهم الإشارة أولاً
إلى أنّ معدّلات التضخّم المرتفعة كانت جزءاً من المشهد الاقتصادي اللبناني، منذ
بداية الأزمة المالية الراهنة التي بدأت في خريف 2019.
فحتّى أواخر شهر فبراير
2023، بلغت نسبة ارتفاع مؤشّر أسعار المستهلك -على أساس سنوي- حدود الـ 189.67%،
مقارنة بـ 214.59% خلال الفترة المماثلة من عام 2022، و155.4% خلال الفترة نفسها
من عام 2021. بهذا المعنى، لا تحمل معدّلات التضخّم الراهنة، هذه السنة، أي جديد.
بل إن نسبة زيادة الأسعار الحاليّة تُعدّ الأدنى منذ ثلاث سنوات على أقل تقدير.
غير أنّ المختلف هو أنّ
معدّلات التضخّم السابقة، خلال السنوات الثلاث الماضية، كانت مفهومة كنتيجة
بديهيّة لتدهور سعر صرف الليرة اللبنانيّة، وتزايد حجم الكتلة المتداولة بالعملة
المحليّة. فقيمة الدولار في السوق الموازية كانت قد ارتفعت من 2127 ليرة في بداية
عام 2020، إلى أكثر من 42 ألف ليرة في بدايات عام 2023.
وخلال تلك السنوات
أيضاً، ارتفع حجم الكتلة النقديّة المتداولة خارج مصرف لبنان بالعملة المحليّة من
10.56 تريليونات ليرة في بداية 2020، إلى 80.17 تريليون ليرة في بدايات 2023.
لكل هذه الأسباب، كان من
الطبيعي أن ترتفع معدلات التضخّم بين عام 2020 والربع الأوّل من عام 2023. إذ
تشكّل السلع المستوردة سنوياً نحو 90% من حجم الاقتصاد المحلّي اللبناني، وهو ما
يربط أسعار السوق بسعر صرف الدولار.
كما كان من المتوقّع أن
ترتفع الأسعار نتيجة لتوسّع حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، التي ترتبط
بمستوى الطلب على السلع المستوردة والعملة الصعبة. مع الإشارة إلى أنّ خلق النقد
مثّل خلال تلك الفترة إحدى أدوات التعامل مع تداعيات الأزمة المصرفيّة والماليّة.
غير أنّ معدلات التضخّم
السنويّة المرتفعة والجديدة، التي جرى تسجيلها هذا العام، لا يمكن تفسيرها
بالعوامل المتصلة بسعر صرف السوق الموازية وحجم الكتلة النقديّة. فمنذ أواخر الثلث
الأوّل من عام 2023، تمكّن المصرف المركزي من خفض سعر صرف الدولار تدريجياً، قبل
ضبطه عند مستويات تقل عن 90 ألف ليرة مقابل الدولار.
وخلال الفترة نفسها،
انخفض حجم الكتلة النقديّة المتداولة خارج مصرف لبنان بالليرة، من 64.91 تريليون
ليرة في أواخر الربع الأوّل من عام 2023، إلى 56.82 تريليون ليرة في أواخر فبراير
الماضي.
ولذلك، وبخلاف ما كان
عليه الحال بين 2020 وفبراير 2023، لم يعد التضخّم نتيجة لهذين العاملين، أي تدهور
سعر الصرف وتوسّع الكتلة النقديّة.
لفهم أسباب استدامة
ظاهرة التضخّم، رغم تحسّن المؤشّرات النقديّة مؤخّراً، تنبغي الإشارة أولاً إلى
ظاهرة دولرة الأسعار في السوق، التي شرّعتها منذ العام الماضي قرارات وزارة
الاقتصاد والتجارة في لبنان.
فهذه القرارات، التي
جاءت بضغط من لوبيات المتاجر الكبرى والمستوردين، سمحت بزيادة وإعادة تحديد هوامش
ربح التجّار بالعملة الصعبة، وعند مختلف مراحل سلاسل التوريد، بعدما تضاءلت هوامش
الربح سابقاً مع تناقص قيمة العملة المحلية المعتمدة للتسعير.
ومن المعلوم أنّ البنك
الدولي كان قد حذّر منذ أواخر عام 2023 من تداعيات الدولرة السريعة للمعاملات
التجاريّة في السوق اللبناني، على مستوى معدلات التضخّم.
ولفت التقرير يومها إلى
أنّ هذا العامل أسهم في تصدّر لبنان قائمة البلدان الأكثر تأثّراً بالتضخّم الاسمي
لأسعار المواد الغذائيّة، ما أدّى إلى تفاقم هشاشة الظروف المعيشيّة للفئات الأشد
فقراً.
وعلى النحو نفسه، حذّر
صندوق النقد الدولي في صيف العام نفسه من عامل الدولرة، من دون أن تلقى جميع هذه
التحذيرات آذاناً صاغية من جانب صنّاع القرار في لبنان.
اعتماد البلاد على السلع
المستوردة، ودولرة أسعار السوق، ساهما في انكشاف البلاد بشدّة لتأثير معدلات
التضخّم العالميّة، التي ناهزت حدود الـ 6.8% خلال العام الماضي، بحسب تقديرات
صندوق النقد، فيما يقدّر الصندوق أن تصل هذه النسبة إلى نحو 5.8% خلال العام
الراهن.
مع الإشارة إلى أنّ
معدّلات التضخّم في الأسواق الناشئة والاقتصادات الناميّة يُفترض أن تسجّل معدلات
أعلى، لتصل إلى ما يقارب الـ 8.1% خلال العام الراهن.
فضلاً عن تداعيات
الدولرة ومعدلات التضخّم العالميّة، تأثرت البلاد خلال الأشهر الماضية بأحداث
البحر الأحمر. إذ تشكّل السلع التي تمر عبر البحر الأحمر نحو 30% من إجمالي
الاستيراد في لبنان، وفقاً لأرقام وزارة الاقتصاد والتجارة.
ولهذا السبب، ساهمت هذه
الأحداث خلال الربع الأوّل من العام الحالي بزيادات تراوحت بين 5% و15%، على أسعار
السلع الاستهلاكيّة والغذائيّة، بفعل ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين البحري.
أمّا المناوشات على
الحدود الجنوبيّة للبنان، فزادت بدورها من حذر شركات الشحن والتأمين الأجنبيّة،
تجاه إمكانيّة توسّع نطاق الحرب.
كذلك، تأثّرت أسعار
السوق بتصحيح أسعار الصرف المعتمدة لاستيفاء الرسوم الجمركيّة والضرائب وفواتير
الخدمات العامّة. فمنذ بداية الأزمة عام 2019، ورغم تدهور قيمة الليرة في السوق
الموازية، استمرّت السلطات باستيفاء هذه المستحقات وفق سعر الصرف الرسمي القديم،
أي 1500 ليرة مقابل الدولار.
غير أن وزارة الماليّة
وسائر المؤسّسات العامّة، عادت لتعدّل سعر الصرف المعتمد لهذه الغايات بشكل
متدرّج، خلال الفترة الماضية. وبحلول الربع الثاني من
العام الماضي، باتت الغالبيّة الساحقة من هذه المُستحقات تُسدّد بحسب سعر الصرف
الواقعي في السوق الموازية، الذي يقارب حدود الـ 90 ألف ليرة مقابل الدولار.
وبهذا الشكل، ارتفع سعر
الصرف المُعتمد في المُعاملات الرسميّة بنحو 60 مرّة، ما أثّر بشكل طبيعي على
أسعار السوق على مرّ السنة الماضية والربع الأوّل من هذا العام.
كما ساهمت جملة من
التطورات الأخرى في رفع أسعار السوق، مثل تصحيح المؤسسات التجاريّة أجور موظفيها،
بعد كل ما طرأ على قيمة هذه الأجور من انخفاضات، نتيجة تدهور سعر صرف الليرة.
عندما تسطو الحكومات على
أموال المودعين
وللسبب نفسه، تحمّلت
المؤسسات تصحيح كلفة الإيجارات السنوية، التي ارتفعت قيمتها بأكثر من 317% لغاية
أواخر فبراير الماضي. وفي النتيجة، جرى تحميل المستهلك هذه الكُلف، من خلال
الزيادات في أسعار السلع والخدمات.
في الخلاصة، بات التضخّم
ظاهرة مستدامة على المدى المتوسّط، وإن تمكّن المصرف المركزي من ضبط وتثبيت سعر
الصرف عند حدود مستقرّة طوال الأشهر الماضية.
لكنّ الأهم خلال المرحلة
المقبلة، هو ترقّب تداعيات هذه الظاهرة على مستوى نسب الفقر المدقع، والحاجة إلى
المساعدات الاجتماعيّة الطارئة، لتجري مواءمة السياسات العامّة والتدخلات
الحكوميّة مع هذه التطوّرات. فالتضخّم الذي يرافق الأزمات الاقتصاديّة، يمثّل
دائماً الضريبة الأقسى التي يدفعها عموم المقيمين من محدودي الدخل.