العدد 1620 /10-7-2024
سامي الخطيب
لطالما
كان الدكتور رضوان السيّد منهجياً فيما يعرض من آراء وأفكار، تخالفه لكنّك تحترم
منهجيّته، وتعارضه لكنّك تنبهر بقدرته على سوق الأدلّة وإيراد البراهين، غير أنّ
الدكتور رضوان لم يكن هو هو في مقاله الذي نشره موقع "أساس ميديا" تحت
عنوان: "سُنّة لبنان تغويهم الحرب.. على المفتي أن يتدخّل"، فقد افتقر
مقاله إلى أبسط أسس المنهجية في بحث مسائل الدّين والشريعة، وأصول النّقل وعزو
الخبر في إثبات الحدث، وأبجديات الوطنية في موضوع يتعلّق بالعدوّ الصهيوني! لبس
فيه عباءة النّاصح الأمين، والعالم المجتهد الموقّع عن ربّ العالمين، وأعطى لنفسه
حقّ التوجيه؛ وإصدار الأوامر؛ وتحديد الخير والشّر؛ وحدود الحقّ والباطل، وما
ينبغي أن يفعله أصحاب السماحة المفتون، ويقوم به أصحاب الفضيلة العلماء، وتسير
عليه الطائفة السّنية في لبنان وما وراء لبنان، متجاوزاً اللائق من الخطاب حين طلب
من سماحة مفتي الجمهورية ضبط المشايخ (!!)، ودعوتهم "إلى التعقّل وعدم
المغامرة في الدّين"، لأنّه، خائف، كما قال، من "ثوران المشايخ"
وإذكائهم نار حرب "لا مصلحة لنا ولا لفلسطين فيها".
ماذا
في مقالة الدكتور رضوان السيّد؟
يتحدّث
الدكتور السيّد في مقالته عن اندفاعة غير مسؤولة لدى بعض شباب السّنة للمشاركة في "حرب
لا ناقة لنا فيها ولا جمل"، لأنّها، كما يقول، حرب حماس وحزب الله على
إسرائيل، وليست صراعاً بين الحقّ والباطل، أو حرب إسرائيل على شعب احتُلَّت أرضه وتُداس
كرامة أبنائه كلّ يوم. وهو يرى أنّ مشاركة هؤلاء الشباب اللبنانيين في هذه الحرب
مغامرة غير محسوبة، تشكّل خطراً على فكرة الدّولة، وتهديداً لصيغة الكيان، وطعناً
بالشراكة الوطنية مع المسيحيين، خاصّة أنّها اندفاعة من سُنَّة لبنان الذين كانوا
عبر التاريخ تحت سقف الدّولة وجناح أجهزتها الإدارية والعسكرية، ضمن قرارات جامعة الدّول
العربية والنّظام الدّولي، محذّراً من أنّ انجرار بعض العلماء والمفتين خلف هذه
الطروحات "المتهوّرة" يهدّد بفتنة تطال السّلم الأهلي وإزهاق أرواح النّاس
دون ثمن! ليخلص إلى دعوة مفتي الجمهورية اللبنانية لضبط المشايخ ودعوتهم للتعقل
ومنع المغامرة في الدّين والدّولة. هذا خلاصة ما دعا إليه السيّد في مقالته،
مضيفاً إلى أنّ هذه الاندفاعة السنّيّة غير المسؤولة، إنّما هي جزء من حرب يقودها
حزب الله لتحقيق مصالح إيران وتوسيع نفوذها في المنطقة، بعدما أحكموا السيطرة على
أربع عواصم تاريخية عربية، هي: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
الجهاد
بين التهمة وأداء الواجب
لقد
نسي الدكتور السيّد أو تناسى، في حمأة الانحياز والشعبوية، أنّ فلسطين أرض عربية
إسلامية، احتلّها عدوّ مجرم غاصب، وهو يسلب، منذ عقود طويلة، خيراتها، ويدنّس
مقدّساتها، ويزوّر تاريخها، ويسكن بيوت أهلها وينتهك حرماتهم. وما قامت به، حماس
وفصائل المقاومة الفلسطينية، ومعهم، ومِن ورائهم الشعب الفلسطيني الصابر المصابر
ليس إلا دفعاً لعدوان المعتدي، ودفاعاً عن الأرض والمال والعرض والكرامة. وأمّا
موقف حزب الله، وغيره من القوى في السّاحات المتعدّدة، في الدّعم والمشاغلة
والإسناد، فهو موقفٌ مقدّر أيّاً كانت دوافعه وخلفيّته، في ظلّ المواقف المخزيّة
من حكومات الدّول العربية والإسلامية وجيوشها والقوى الحيّة فيها.
ولم
يكن موقف قوات الفجر وقيادتهم السّياسية في الجماعة الإسلامية إلا استمراراً لنهج
قديم يؤكّد تمسّك المسلمين السّنة في لبنان بعروبة لبنان، واحتضان المقاومة
الفلسطينية، والاستجابة لنداء الواجب، رغم الكثير من العقبات والظروف الموضوعية
التي تصعّب مقارعة هذا العدو المجرم، والمشاركة في الدفاع عن الأرض والعرض
والكرامة. وليس صحيحاً، أبداً، أنّ الجماعة الإسلامية بمشاركتها هذه ترهن قرارها لحزب
الله أو تخدم مشروع إيران التوسّعي، وكانت مواقفها من ثورات الرّبيع العربي، ثمّ
من مشاركة حزب الله وإيران في حروب سورية واليمن والعراق واضحة لا تحتاج لمزيد
بيان.
مقارعة
العدو بين الإعداد والضرورة
نعم..
قد يقول قائل: إنّ الحرب تحتاج إلى عُدّة، ومقارعة العدوّ تتطلّب شكلاً من أشكال التوازن،
ولا بدّ لها من خطّة واضحة في الإعداد
والجهوزية، وقدرة غير منقوصة على الإثخان في العدو والاستمرارية، ومعلوماتٍ أمنيةٍ
وكفاءةٍ عسكريةٍ، فضلاً عن توفّر إمكانات التعامل مع آثار المعركة وتحمّل تبعات
عمليات الإسناد والدّعم والإمداد، كلّ هذا صحيح، بل هو موقف نحترمه ونقدّره، إذا
جاء من باب تقدير المصلحة والبحث عن الوسيلة الأمثل لمساعدة المجاهدين ومواجهة
المحتلّ، ولا أذيع سرّاً إن قلت إنّه رأي عدد من كوادر الجماعة ومحبّيها، أمّا أن
يكون هذا الرأي، ونحن في وسط المعركة، من باب التخذيل المقصود والتشويه المشبوه،
فذلك ما لا يمكن أن نقبله بحال، ونقول عندها: إنّ ردّ العدوان على الأرض والعرض لا
يحتاج إلى توازن قوى وتساوي إعداد، فالمسلم العزيز كما الحرّ الكريم يُقبِل على
الموت ولا يرضى المذلّة، والنبي الكريم العزيز ﷺ يقول: "من مات دون أرضه فهو
شهيد"، و"من مات دون عرضه فهو شهيد". ونستطيع من خلال قراءة أصولية
شرعية هادئة القول: إنّ قاعدة "درء المفاسد أولى من جلب المصالح" ليست
على إطلاقها؛ وإلا لما جاز للنبي ﷺ أن يجهر بالدّعوة، ولا أن يقطع طريق التجارة على
قريش، ولا أن يقاتل المشركين في بدر ومؤتة، وقل مثل ذلك في معارك اليرموك
والقادسية وملاذكرد وحطين وبلاط الشهداء، وغيرها من المعارك التي لم نقاتل فيها
عدوّنا بعدد ولا عُدّة، ولم يكن فيها تكافؤ سلاح أو تساوي رجال، وهي مواقف، كما هو
مشاهد بعين العقل والمنطق، تعظم فيها المفاسد المباشرة، وتترجّح فيها الأضرار
الآنية، من حصار وكيد وتشريد وإزهاق أرواحٍ وعظيم بلاء، لكنّ شرعيّتها تتأتّى من
الأهداف الاستراتيجية الكبرى، والدّفاع عن معاني الإنسانية العظمى، وما تتضمّنه من
قيم الكرامة والحرّية والعدالة ومساواة الإنسان بأخيه الإنسان، وهذه المصالح هي ما
ينبغي أن تكون محلّ نظر العقلاء، دون أن يتضمّن ذلك تشويهاً لمقصد النبلاء وتشكيكاً بجهاد الأوفياء،
أو أيّ شبهة في مناصرة العدوّ وتبرير احتلاله واعتداءاته، وخذلان المجاهدين
المقهورين، والمعتدى عليهم من المدنيّين العزّل المظلومين.
الخوف
من الجماعة على لبنان والمسيحيين
يخاف
كاتب المقال على لبنان وفكرة الدّولة فيه، وعلى العلاقة بالشريك المسيحي، من شباب
أعلن استعداده للتضحية بحياته من أجل حرّية بلده واسترداد أراضيه ودفع المعتدين عنه،
ولا يخاف عليه ممّن ينهب خيراته ويعطّل مؤسساته ويهين كرامة أبنائه، ويعتدي كلّ
يوم على سيادته واستقلاله! ويتحدّث عن مسيحيي لبنان وكأنّهم منسلخون من الوطنية،
أو أنّ وجودهم في هذا الشرق العربي الأصيل دخيلاً، وعن الجماعة الإسلامية، وكأنّها
داعش أو تنظيم القاعدة، وهي التي لم يشهد تاريخها الطويل، منذ تأسست عام 1964 أيّ
استخدام للسّلاح في الدّاخل اللبناني، ولم توجّه بندقيّتها إلا إلى صدور جنود
المحتلّ الصّهيوني، ولم تكن يوماً إلا رمزاً للتّسامح والدّعوة للحوار والشّراكة
الوطنيّة على أساس العدالة والمساواة واحترام القانون والدّولة والمؤسّسات. ولطالما
نالتها سهام التطرّف المسيحي والإسلامي على حدٍّ سواء، وهي التي رفعت، قبل غيرها، في
كانون الأول 1999 إثر أحداث الضّنية، شعار: " الجيش جيشنا، ولا نقبل المساس
به، والدّولة دولتنا، ولا نرضى تجاوز مؤسّساتها.."، وأطلقت في أيلول 2007،
بحضور أكثر من مائتي شخصية إسلامية وممثلي جمعيات وحركات إسلامية سنّية، وثيقة
"نبذ العنف والتّطرف والكراهيّة" بعد أحداث نهر البارد المؤسفة، ثمّ
وثيقة "رؤية وطن" في أيار 2017 التي أكّدت فيها الجماعة بمشاركة علماء
وسياسيين وإعلاميين وزهاء ألف من كوادرها انفتاحها على شركائها في الوطن، حتى اعتبر
بعض النقّاد والباحثين هذه الوثيقة مرجعاً وطنياً يساهم في قوّة الدّولة وبناء مؤسّساتها
وحماية أفرادها من الشّطط والغلوّ والانحراف.
الحياة
عبادة
نحن
قوم نعشق الحياة، ونرى أن الدّولة المدنيّة العادلة، والمجتمع المتديّن المتحابّ،
هو ضمانة اللبنانيين للعيش الكريم تحت سقف الدّولة وسلطة القانون. ونرى أنّ العيش،
كما الموت، في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنّساء والولدان عبادة نتقرّب
بها إلى ربّنا سبحانه، ولا نرى حرجاً في الإقبال على الموت إذا تطلّبت الحياة
العزيزة الكريمة هذه التّضحية. وما طوفان الأقصى، وجهاد حماس والجهاد وأهل فلسطين
ولبنان، إلا دفع لهذا العدوّ الصائل، واستباق دفاعيّ لأطماعه الصهيونية في خيرات
بلادنا، وثروات أوطاننا، وعمق دولنا من لبنان وسوريا والأردن وبلاد الشام، إلى مصر
والسودان والعراق، وليس انتهاء بالكويت والسعودية والإمارات وعُمان واليمن وغيرها
من البلاد الواقعة على الضّفاف الشرقيّة لنهر النيل! وواجب على أحرار هذه الأمّة
في شرقها وغربها دفع الصائل المحتلّ، وردّ عدوان المعتدي، كلٌّ حسب قدرته وطاقته،
فـ"لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها"، وليس بعد ذلك ذرّة من الإيمان.
بقلم: سامي الخطيب