العدد 1656 /19-3-2025
وسام حجار

في تمام الساعة التاسعة وثلاث وثلاثون دقيقة من ليل يوم الجمعة الواقع في 16 آذار عام 1956 ، ضرب الزلزال مدينة شحيم في جبل لبنان، ليترك وراءه آثاراً لا تُمحى من الذاكرة، ويستقر في قلوب أهالي البلدة، كذكرى أليمة لا تمحى مع مرور السنين. كانت تلك لحظة صمت رهيب، تخللها صوت هدير الأرض، الذي جثم على صدور الأهالي أبناء هذه البلدة الطيبين.

كان الليل قد اسدل ستاره، والقمر يسطع بدراً في السماء، لتُكشف عن أحد أصعب الفصول في تاريخ بلدة شحيم. هز الزلزال الأرض بشكل مفاجئ، وعصف بحياة من كانوا يظنون أن الأرض لا يمكن أن تبتلعهم. انهارت المباني وتصدعت الجدران، لتتحول الأحياء والمنازل إلى أنقاض تغطيها غبار الدمار. في تلك اللحظات، كان الألم لا يُحتمل، كان الموت يلتهم من في طريقه، والدموع تسيل بلا توقف.

لقد أُخذت أرواح بعض أهالي شحيم الذين كانوا نائمين على أمل ان يستفيقوا لاستقبال يوم جديد ككل يوم، وذهب البعض الآخر جرحى يئنون تحت الركام، يبحثون عن نجاتهم وسط هذا الحطام. كانت عيونهم مليئة بالأسئلة التي لا جواب لها: هل نحن على قيد الحياة؟ هل ستعود هذه الأرض الطيبة كما كانت؟

لكن ما لا يمكن لأي كارثة أن تقتله هو عزيمة الناس الذين عاشوا في هذه البلدة.
شهدت شحيم يومًا بعد آخر كيف أن أهلها خرجوا من تحت الأنقاض بكل ما فيهم من قوة وصبر، متحدين في وجه العواصف والأزمات. فحتى في لحظات الألم، كانت يد العون تمد من كل الزوايا، في مشهد يُظهر أن الإنسان، مهما تعرض للظلم والتحديات، يظل قادرًا على الوقوف مرة أخرى.

لقد ترك الزلزال الكثير من الجراح في القلوب، لكن تلك الجراح كانت بداية لرحلة تعافي المجتمع من جديد. رُغم الفقدان الكبير، ظل الأهالي مصممين على إعادة بناء ما تهدم، وإعادة لم شمل الأسر التي تمزقت، ومواساة من فقدوا أحبائهم في تلك اللحظات العصيبة. كانت الشجاعة والتضامن في مواجهة المحنة هو العزاء الوحيد في زمن لم يكن فيه أحد قادرًا على إعادة ما فقد.
في مقدمة بحثه العلمي الذي تم نشره في نيسان من العام 1956 تحت عنوان: "الزلازل في لبنان بحث علمي عن اسباب حدوث الهزات الارضية عام 1956"، يفتتح المهندس علي حسين بك الحجار (عضو استشاري في معهد المخترعين الاميريكين في واشنطن) بحثه بالقول:
"يؤسفني أن أحدثكم عن الكارثة التي ألمت بلبنان وأحزنته بسبب الهزات الأرضية الثلاث المتوالية التي حدثت في الساعة التاسعة والنصف وثلاث دقائق من مساء الجمعة الواقع بتاريخ 16 آذار 1956. وكانت هذه الهزات مفاجأة للبنانيين والعالم باسره وكانت ضربة قاسية على بعض القرى ويؤلمني أكثر ما أصاب عائلتي والعائلات الاخرى في شحيم وسواها التي تهدمت معظم مساكنها، وأتلفت ارزاقها وأثاثها وتخربت أملاكها وكثرت ضحاياها".

وفي بحثه يعدد المهندس حجار اسماء الضحايا الذين تجاوز عددهم ال 46 إضافة الى عدد كبير غير محدود من الجرحى والمصابين.

اليوم، وبعد مرور أكثر من 69 عامًا على ذلك الزلزال المدمر، لا يزال الجرح مفتوحًا في قلب شحيم. ولا تزال ذكريات "النكبة" كما يسميها ابناء شحيم الذين عاصروا تلك الحقبة، حاضرة في عقولهم ووجدانهم. ولكن، ورغم كل ذلك، استطاعت شحيم أن تعيد بناء نفسها، وأن تصبح رمزاً للصمود والأمل في مواجهة الكوارث والأزمات.

تخليد الذكرى

إن الحديث عن زلزال شحيم 1956 ليس مجرد ذكرى لظاهرة طبيعية مرّت، ولا نكءاً للجراح او بثاً الرعب والتهويل على أبناء شحيم والمقيمين فيها الآن، بل هو احتفاءً بتضحيات الناس، وإحياءً لذكرى أولئك الذين غادروا هذا العالم في ذلك اليوم. إنه تخليد لذكرى الشهداء الذين ارتقوا، ولم يمروا مرورًا عابرًا، بل تركوا بصمتهم في التاريخ.
لن ننسى أبدًا تلك الأرواح الطاهرة التي رحلت، وسنبقى دائمًا نذكر أن كان هناك اناس قوتهم لم تكن فقط في قدرتهم على العيش بعد الكارثة، بل في إرادتهم لمواصلة الحياة ومساعدة الآخرين.

عبر الزمان، تظل شحيم ثابتة

أهالي شحيم اليوم يعيشون مع الذكرى، يتذكرون أحباءهم الذين قضوا في ذلك الزلزال، ويستذكرون أجدادهم الذين كانت ذات يوم وجوههم تبتسم وتضج بالحياة، لكنها اختفت فجأة تحت الأنقاض. ورغم غيابهم، لا يزال الأمل ينبض في قلوب من تبقوا، والمقاومة ضد الألم لا تزال تُعطي الحياة للأجيال القادمة.

لقد علمتنا شحيم أن الصمود في وجه الكوارث هو أعظم درس يمكن أن نتعلمه. الصمود ليس فقط في الوقوف أمام التحديات، بل في كيفية تجاوز الآلام والحفاظ على الإنسان بداخلك مهما كانت المحن.

خاتمة:

إن زلزال شحيم عام 1956 ليس مجرد ذكرى للألم والموت، بل هو ذكرى للأمل والتجدد، ولحظة عاشت فيها البلدة بأكملها تجربة مريرة، لكنها أثبتت من خلالها أن الإرادة الإنسانية لا يمكن هزيمتها. فلتظل أرواح الشهداء الذين سقطوا في ذلك الزلزال خالدة في قلوبنا، ولتستمر شحيم في رحلتها نحو بناء المستقبل.

رحم الله من رحلوا، وحفظ الله من بقوا.