العدد 1686 /22-10-2025
توفيق شومان
نشأت فكرة
تشكيل الجيوش من حاجة الأفراد وجماعات ذوي القربى للحماية الذاتية. ولمّا تطوّرت
مفاهيم التحالفات الأسرية والعشائرية والقبائلية نحو بناء سلطة عُليا، كما يقول
الفيلسوف الإغريقي أرسطو في "السياسات"، وفريدريك إنجلز في "أصل
العائلة والملكية الخاصّة والدولة"، باتت الجماعات المتحدة بحاجة إلى قوة
حماية عامّة، ومنها تبلورت فكرة تكوين الجيش الحامي للدولة والجمهور العام. وعلى
هذه الخلفية التاريخية والفلسفية، ناقش اللبنانيون السُبل الآيلة لحماية أنفسهم
منذ اندراجهم في عقد اجتماعي حديث عُرف بـ"الميثاق الوطني"، وأكثر
النقاشات وأكثفها في المجال المذكور شهدها لبنان في النصف الأول من سبعينيّات
القرن العشرين، ودارت كلّها في فلك سؤالين: كيف نحمي لبنان؟ وكيف نسلّح الجيش
اللبناني؟
في 5 أغسطس/ آب
1971، صدرت صحيفة الحياة البيروتية، وفي رأس صفحتها الأولى: "أنباء عن صفقة
أسلحة بريطانية للبنان تضمّ 8 طائرات"، ونقلت الصحيفة عن وزير الدفاع
اللبناني إلياس سابا قوله إن لبنان يجري مفاوضات مع بريطانيا، ودول أخرى، لشراء
أسلحة للجيش اللبناني. وبالفعل، أكّدت الحكومة البريطانية هذه المعلومات، بينما
ذكرت صحيفة ديلي إكسبرس الإنكليزية أن قيمة الصفقة التسليحية المزمع عقدها بين
بيروت ولندن تقارب 40 مليون جنيه إسترليني. وكتب محمد الحوماني في عموده اليومي
(في عدد "الحياة" نفسه) أن الرئيس سليمان فرنجية يشدّد على "مسألة
تسليح الجيش (ويردّ) على المشكّكين بموقف الدولة من موضوع التسليح وأولئك القائلين
إن التسليح لبلد مثل لبنان لا جدوى منه ولا يعني إلا هدر المال من غير طائل".
وفي اليوم
التالي (6/8/1971)، وبالاستناد إلى "الحياة"، تحدّث الرئيس فرنجية عن
صفقة السلاح اللبنانية ـ البريطانية خلال لقاء مع نقابة المُحرِّرين اللبنانيين
وقال: "ما دام العدو على أبوابنا، سنظلّ نسلّح الجيش، وعلينا تقويته بأسلحة
حديثة، وقد خصّصنا للجيش 200 مليون ليرة، وهذا المبلغ قليل، ويجب أن يرتفع إلى 500
مليون دولار". أما الوزير إلياس سابا فقد شرح (بحسب الصحف اللبنانية الصادرة
في التاريخ نفسه ومنها صحيفة الأنوار) أبعاد مشاريع التسليح التي يهدف لبنان إلى إبرامها
مع دول شرقية وغربية، ومن هذه الأهداف "صدّ أيّ هجوم خارجي يقوم به العدو،
وتمكين الجيش من المحافظة على النظام والأمن الداخلي، وتأمين قوي لصدّ الاعتداءات
التي تقع على حدود لبنان الجنوبية".
وإذ سبق القول
عن اتجاه لبنان إلى تنويع مصادر تسليحه في تلك الحقبة، ومن غير أن يستثني الشرق
ولا الغرب، فقد أبرزته صحيفة النهار (6/8/1971)، في عنوانها العريض موقفاً واضحاً
لفرنجية بهذا الخصوص، إذ أكّد: "سنتسلّح ولا تهمّنا هُويَّة السلاح".
وأشارت إلى إقرار لجنتَي الدفاع والمال النيابيَّتَين مشروع التسليح، كما أدرجت في
عددَين متتاليَين تحقيقاً عن محادثات لبنانية ـ سوفييتية لتوسيع العلاقات
الثنائية، على أن تشمل التجارة والسلاح. وفي السياق نفسه، اقتطفت
"الحياة" (7 /8/1971) مضمون تقرير نشرته صحيفة فايننشال تايمز
البريطانية عنوانه: "بريطانيا تنافس فرنسا وروسيا على تزويد لبنان بالأسلحة".
وبعدما صادق مجلس النواب خطّة التسليح، أوردت "الحياة" (27/8/1971)
موقفاً للوزير سابا يؤكّد فيه تنويع مصادر التسلح بقوله: "لبنان متمسّك
بطائرات الميراج" فرنسية الصنع، فيما رئيس الحكومة صائب سلام لم يتوانَ عن
القول مرّة تلو أخرى: "السلاح لن يكون من مصدر واحد".
وشهد الشهر
التاسع من 1971 توقيع الرئيس فرنجية مشروع التسليح، وفقاً لصحيفة الحياة
(12/9/1971)، وأحيل المشروع إلى الجريدة الرسمية. ونسبت الصحيفة إلى مصادر حكومية
أنه "في حال توقيع الحلّ السلمي بين الدول العربية وإسرائيل، فلبنان يبقى
مطالباً بتقوية جيشه وتعزيزه"، والموقف نفسه شدّد عليه زعيم حزب الكتلة
الوطنية، ريمون إدّه، إذ صرّح قائلاً: "طالما أن الجيش اللبناني موجود، فيجب
أن تكون لديه أسلحة، ولا يعقل أن يوجد الجيش من دون تزويده بالسلاح المناسب".
وبالانتقال إلى
1974، كتب المحرّر الدبلوماسي لصحيفة النهار عن استعداد الاتحاد السوفييتي لتلبية
المطالب التسليحية اللبنانية. ودعا رئيس الحكومة رشيد الصلح (17/12/1974) إلى شراء
منظومة صاروخية دفاعية من الاتحاد السوفييتي طبقا لـ"النهار"، التي عادت
وسلّطت الضوء (23/12/1974) على اعتراض الرئيس سليمان فرنجية على الطاعنين في خطط
التسليح اللبنانية، وأرجعت معلوماتها إلى مصادر رسمية على صلة برئيس الجمهورية
"الواثق من قدرة الدولة على تنفيذ مشروع الخطّة الدفاعية الذي تبلغ تكاليفه
1400 مليون ليرة، وأن ما يتردّد عن تعذّر تنفيذ المشروع بسبب الظروف المالية لا
يعبّر عن الواقع".
وقبل نهاية
1974، كانت معروضة في جدول الأعمال الحكومي تكاليف الخطّة الدفاعية اللبنانية،
وذكرت صحيفة الأنوار (27/12/1974) أن مجلس الوزراء سيخصّص جلسته المقبلة لإقرار
مشروع الخطّة الدفاعية، وفي ما جاء من تفاصيل "أن الخطة التي وعدت بها
الحكومة لتعزيز القدرة الدفاعية كلفتها 1400 مليون ليرة، والخطّة المنوي إقرارها
أُدخلت إليها تعديلات لجعلها قابلةً للتمويل من طريق الرسوم والضرائب الجديدة ومن
دون حاجة إلى معونات عربية".
في كتاب
"أقدار وتوقّعات"، يقول جول البستاني (الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات
اللبناني المعروف بـ"الشعبة الثانية") إن قادة الجيش اللبناني
"سعوا منذ الاستقلال إلى رفع قدرة القوات المسلّحة بما يناسب حاجات الأمن في
كل حقبة، لكنّهم كانوا يصطدمون بعجز الحكّام عن تخصيص الأرصدة الضخمة لشأن الدفاع
الوطني، فيؤجّلون اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، آملين أن يحلّ الزمن
المشكلات المستعصية. وممّا كان يزيد في تمهّل الحكام لرفع قدرة الجيش، تخوّفهم على
الديمقراطية من سيطرة العسكر، وكذلك تخوّف الأحزاب والإقطاع بمختلف أشكاله من هذه
السيطرة".
ماذا يقال بعد
ذلك؟... الصمت سيّد الحكمة.