العدد 1678 /27-8-2025

ليال حداد

لم يكن تصريح الموفد الأميركي توماس (توم) برّاك من على منبر الرئاسة اللبنانية تفصيلاً بروتوكولياً عابراً، فاستخدامه (هو أو أي مسؤول آخر) تعبيري "فوضوي" و"حيواني" في مخاطبة الصحافيين اللبنانيين المندوبين في القصر الجمهوري يطرح إشكاليتين: طبيعة النظرة الدبلوماسية الأميركية إلى المشهد اللبناني، وحدود العلاقة بين المسؤولين والصحافة.

في الشكل، بدا برّاك مستاءً من مقاطعة الصحافيين وتداخل أسئلتهم أثناء حديثه. وهو أمر مفهوم ربما، خصوصًا خلال المؤتمرات الرسمية، وفي ظل النقاش المتوتّر أصلاً في لبنان حول نزع سلاح حزب الله، وانسحاب الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب. لكن التحوّل من ملاحظة سلوك، إلى وسم جماعي مهين يكشف ما هو أبعد من إدارة موقف لحظي: نظرة استعلائية تجاه الصحافة اللبنانية، وربما تجاه لبنان نفسه بوصفه حيّزاً سياسياً وإعلامياً.

لا يمكن تجاهل أن برّاك ليس شخصية مستقلة عن السياق السياسي الذي أتى منه؛ فهو موفد إدارة الرئيس دونالد ترامب، الذي جعل من مهاجمة الإعلام الأميركي جزءاً ثابتاً من خطابه السياسي. فقد وصف ترامب الصحافيين مراراً بأنهم "أعداء الشعب" و"مروّجو أخبار كاذبة"، في نهج عزّز صورة الإعلام خصماً وليس شريكاً في النقاش العام.

بهذا المعنى، يمكن قراءة سلوك برّاك بوصفه امتدادا لهذه العقلية التي كرسها ترامب في ولايتيه، إذ يتحوّل الخلاف مع الصحافة من مسألة مهنية إلى موقع صراع قوة، ما يبرر، في نظره، استخدام لغة متعالية تقلّل من قيمة الصحافيين وتنتقص من شرعية دورهم، مقابل تعظيم دور السياسيين. وإذا ما أخذنا كل ما سبق بعين الاعتبار، فإن ما قاله برّاك لا يُقرأ زلّة لسان، بل لعلّ أسوأ ما فيه أنه يعلن صراحة عن ازدراء أميركي دبلوماسي لواقع الإعلام اللبناني وللصحافيين أنفسهم، الذين للمفارقة، غالباً ما يتعاملون مع الموفدين الأميركيين بإعجاب مبالغٍ فيه، وهي عموماً عادة لبنانية سيئة، تعيد تدوير الانبهار بالمسؤولين الغربيين أياً كانت إداراتهم أو جنسياتهم أو دورهم.

وإذا كان أسلوب برّاك امتدادًا لخطاب ترامب، فهو أيضاً انعكاس لتحولات أعمق في علاقة الإدارات الأميركية بالإعلام ككل. حتى ما قبل ترامب، شهدت واشنطن تضييقاً متزايداً على العمل الصحافي في ملفات الأمن القومي والسياسة الخارجية، لكن إدارة ترامب جعلت المواجهة مباشرة وعلنية، فانتقل الخطاب من انتقاد الأداء إلى نزع الشرعية عن الصحافة نفسها. هكذا يصبح سلوك برّاك جزءاً من سياق ثقافي - سياسي أوسع، يُقصي الصحافيين من موقع الشريك في النقاش العام، ويحصرهم في موقع المروّجين أو "المشاغبين".

إهانة برّاك للصحافيين في القصر الجمهوري، سرعان ما اتسع أثرها؛ فبعد وصف الوضع بـ"الحيواني" أعقب ذلك بجملة أخرى: "هذه هي المشكلة في ما يحصل في المنطقة (العربية)"، في إشارة إلى الفوضى. يوسّع الموفد الأميركي إذاً، من هامش فوقيّته، ليشمل المنطقة كاملةً، وهي المنطقة نفسها التي تعاني منذ قرابة عامَين من إبادة جماعية، هي الأكثر دموية في التاريخ الحديث، تنفذها إسرائيل وترعاها دولة السيّد برّاك. ببساطة يعيد الموفد الأميركي إنتاج مقاربة أميركية راسخة ترى في العالم العربي ساحة غير ناضجة سياسياً، ومفتوحة للتدخل العسكري والثقافي معاً.

لم تتأخر الرئاسة اللبنانية عن إصدار بيان ركيك، تأسف فيه لما ورد على لسان "أحد ضيوفها اليوم" من دون أن تسميه، مكتفية بتكرار تقديرها للجسم الإعلامي اللبناني. وهو ما يفتح سؤالاً عن معنى الحياد في لحظة إهانة علنية للصحافيين من منبر رئاسي، وعن حدود قدرة الدولة على حماية صورتها. فالصمت هنا لا يُقرأ تفادياً لتوتير العلاقات مع واشنطن، بقدر ما يُفهم قبولاً ضمنياً بتراتبية لا متكافئة بين الموفد الأميركي ومؤسسات الدولة وإعلامها نفسه.