العدد 1426 / 2-9-2020
د. محسن محمد صالح
تتميز
صناعة القرار السياسي اللبناني بدرجة عالية من التداخل والتعقيد، قياساً بأي نموذج
في بلدان العالم الأخرى. فالنظام السياسي قائم على محاصصات طائفية وحزبية متداخلة،
وتتدخل في صناعة قراره قوى خارجية إقليمية مثل سوريا والسعودية وإيران، وقوى دولية
وخصوصاً أمريكا وفرنسا. كما تتداخل فيه الاعتبارات الجيوستراتيجية، باعتباره أحد
خطوط المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، وباعتباره مستوعباً لعدد كبير من اللاجئين
الفلسطينيين، وكذلك باعتبار سوريا منفذه البري الوحيد إلى العالم العربي.
وتعاني
البيئة اللبنانية، في ظلّ عقلية المحاصصة الطائفية والاختلال السياسي، من ضعف
الدولة المركزية، وتقديم الروح الطائفية على الروح الوطنية، ومن قيام الجهات
الحزبية بتعطيل أعمال وبرامج ومشاريع الدولة إن لم تتوافق مع حساباتها ولم تصب في
مصلحتها. وبالإضافة إلى أزمة الثقة في تعامل الأحزاب مع بعضها مع الاستعداد
للاستقواء بقوى خارجية، تأتي أزمة الفساد الذي انتشر على نطاق واسع في البنى
السياسية والاقتصادية وأجهزة الدولة. وهو ما يجعل عملية الإصلاح، وصناعة القرار،
واتخاذ حلول عاجلة فعالة، أمراً معقداً وصعب المنال.
جاءت
انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 لتكشف مدى إحباط وغضب الشارع اللبناني تجاه طبقته
السياسية، وما تسببه من إضعاف للدولة ومؤسساتها، ومن أزمات سياسية واقتصادية وهدر
واستباحة للمال العام. ثم جاءت جائحة كورونا لتتسبب بمزيد من التدهور الاقتصادي
ولتكشف عن جوانب قصور جديدة. ثم لحقها انفجار مرفأ بيروت الذي تسبب بكارثة تزيد
كلفتها عن 15 مليار دولار، وليكشف مدى الترهل والإهمال في التعامل مع قضايا حساسة
(حفظ كمية هائلة من مواد متفجرة هي نيترات الأمونيوم في عنابر المرفأ لست سنوات.
كل
ذلك تسبَّب بهزة عميقة لبنية المنظومة السياسية اللبنانية، ووضَعها أمام استحقاقات
كبرى، كما أتاح فرصاً أكبر للقوى الخارجية للتدخل. ومع ذلك، فما زالت بعض القوى
تتباطأ في التعامل مع استحقاقات المرحلة بالجدية اللازمة، وبالاستعداد للخروج من
الحسابات الطائفية الضيقة إلى المصالح الوطنية العليا؛ وما زالت تقيس الأمر
بحسابات الربح والخسارة القديمة ذاتها. وهو ما قد يجعل التحرك باتجاه التغيير
أمراً ثقيلاً، حيث ما تزال قدرة هذه القوى على التعطيل قوية.
يبرز
مسار تشكيل حكومة وحدة وطنية أمراً مطروحاً على الساحة، خصوصاً بعد التبني الفرنسي
للفكرة، مع عدم استبعاد مشاركة حزب الله بشكل مباشر أو غير مباشر فيها. غير أن هذا
المسار يواجه مشكلة حقيقية في أن الطبقة السياسية إياها، التي ثار عليها الشعب
اللبناني، ستعيد إنتاج نفسها، ووفق منظومة المحاصصات، التي ستستمر في التغطية على
الممارسات الخاطئة للشركاء، وستستمر في إضعاف الدولة ومؤسساتها. كما أن الحكومة
التي أسقطتها الانتفاضة الشعبية كانت أصلاً حكومة "وحدة وطنية"، وهذا ما
قد يجعل تشكيل هذه الحكومة أمراً صعباً، بالإضافة إلى أنه يحتاج عادةً إلى فترة
طويلة من المناورات والمفاوضات الحزبية.
ويبدو مسار تشكيل حكومة تكنوقراط مساراً
ثانياً محتملاً، غير أن مثل هذه الحكومة لا يمكن أن تتشكل دون غطاء حزبي يكفل لها
أغلبية برلمانية. وكانت "حكومة الإنقاذ" التي تشكلت في إثر الانتفاضة هي
في جوهرها حكومة تكنوقراط مدعومة بغطاء حزبي من الثنائي الشيعي (حزب الله وأمل)
والتيار الوطني الحر، غير أنها لم تنجح في مواجهة الاستحقاقات، وقدمت استقالتها
بعد انفجار مرفأ بيروت؛ بل واعترف حسان دياب في خطاب استقالته أنه واجه فساداً
وتعطيلاً أكبر من الحكومة. هذه التجربة ستُصعِّب تشكيل أي حكومة تكنوقراط جديدة.
أما
المسار الثالث المتمثل في الدعوة إلى انتخابات مبكرة، فيبدو أيضاً مساراً تكتنفه
عقبات كبيرة. إذ إن عدداً من القوى الحزبية الأساسية لا ترغب في انتخابات مبكرة
لأنها تتوقع خسائر كبيرة، تؤدي إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسية بما لا يوافق
هواها. وظهرت حالة عدم الرغبة هذه عندما دعا رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب إلى
انتخابات مبكرة خلال شهرين. كما أن الذهاب إلى انتخابات مبكرة يحتاج إلى قانون
انتخابي؛ جديد قد يحتاج الكثير من الوقت والمناورات والتدافعات للوصول إليه، مع
إمكانية إعادة المنظومة السياسية (المستهدفة بالتغيير) إنتاج نفسها، وإن بأوزان
مختلفة.
المسار
الرابع مرتبط بتصاعد الحراك الشعبي وتطوير قدراته وإمكاناته، بحيث يتمكن من فرض
تغيير جوهري في منظومة صناعة القرار السياسي اللبناني، باتجاه نقل البلد من
الطائفية الحزبية إلى الدولة الوطنية، وبناء منظومة مؤسسية أكثر شفافية وفعالية،
وأقدر على تقديم المصالح العليا وعلى محاربة الفساد. وهذا المسار يواجه تحديات
حقيقية أيضاً. فالحراك الشعبي لم يفرز حتى الآن قيادة كاريزمية تستطيع أن تحل مكان
القيادات التقليدية الحالية، كما أنه لم يستطع أن يتوافق على برنامج سياسي عابر
للطوائف. ثم إن القيادات الطائفية الحزبية ما تزال تملك قواعد شعبية معتبَرة، وما
تزال قادرة إلى حدّ كبير على اللعب على المخاوف والمصالح الطائفية. هذا بالإضافة
إلى أن عدداً من القوى الحزبية سعى لركوب موجة الحراك الشعبي، وإعادة توجيهه أو
إفراغه من مضمونه.
ثمة
مسار خامس مرتبط باستمرار حالة الفراغ السياسي واستمرار حكومة تصريف الأعمال لأشهر
عديدة قادمة، بسبب حالة الاحتقان السياسي والشعبي، وتضارب المصالح والمطالب، مع
استقواء البعض بالقوى الخارجية، لتصبح المحصلة في النهاية صفرية، وليبقى الحال على
ما هو عليه، بانتظار الوصول إلى "معادلة سحرية" تُخرج البلد من الأزمة.
غير أن مثل هذا الفراغ السياسي سيصبُّ باتجاه تعطيل قضايا ومشاريع حيوية
واستحقاقات عاجلة؛ البلدُ في أمسّ الحاجة إليها، وسيُبقى على تعطيل الإصلاح
السياسي والاقتصادي ومحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين، وهو ما قد يؤدي إلى مزيد من
التدهور الاقتصادي، مع تصاعد معاناة المواطن اللبناني الذي "طحنته"
الأزمات المتتالية.
أما
المسار السادس فهو (لا قدر الله) اتجاه البلد نحو الفوضى والانفلات الأمني. وما
يبرر وجود هذا المسار هو استمرار تمترس عدد من القوى الطائفية الحزبية خلف
قناعاتها وحساباتها، واستمرار تعطُّل عملية الإصلاح السياسي، واستمرار تعطّل
الإصلاح الاقتصادي، واستمرار تقديم بعض القوى "شبكات أمان" لأشخاص وجهات
متهمة بالفساد، واستمرار تعطّل مشاريع البنية التحتية والخدمات، واستنزاف الرصيد
المالي للبنك المركزي بحيث لا يعود قادراً على توفير التمويل اللازم للمحروقات
والمواد الأساسية والأدوية، مع إصرار الجهات الإقليمية والدولية المانحة على فرض
شروطها لتوفير القروض والتمويل اللازم.
وهكذا،
فمع تزايد مظاهر الفقر، واتساع الأزمات الاجتماعية، وتعطّل مئات الآلاف من الشباب
عن العمل، وانخفاض قيمة الرواتب إلى نحو 20 في المئة مما كانت عليه مقابل الدولار،
مع تراخي قبضة الدولة في ظلّ عدم وجود الميزانيات اللازمة.. وتصاعد الاحتقان
الحزبي والطائفي.. كل ذلك عناصر "تفجير" محتملة ومقلقة، وهو مسار يجب أن
يسعى الجميع لتجنبه بسبب آثاره الكارثية على الجميع، ولكنه لا ينبغي استبعاده على
الأقل في إطار مواجهة الحقائق، والسعي لارتقاء الجميع إلى مستوى المسؤولية تجاه
الوطن.
المسار
المرجح:
وفي
مثل هكذا أحوال، يصعب توقع مسار مرجح، غير أن العقلية السياسية الطائفية المبنية
على المحاصصة ما زالت قوية، وما زالت "أزمة الثقة" و"أزمة
الفساد" تفرضان نفسيهما كعناصر مُعطِّلة في الانتقال إلى أي حلول جذرية.
ولذلك فقد تحدُث بعض المسارات بشكل متداخل ومتوازٍ. إذ من المحتمل أن يطول أمد
حكومة تصريف الأعمال؛ في الوقت الذي قد يستمر فيه الحراك الشعبي لمحاولة فرض
معادلة جديدة لمنظومة الحكومة ومحاولة تقديم رموز قيادية جديدة. غير أن استمرار
التدهور الاقتصادي قد يوصل الأجواء إلى "نقطة حرجة" قد تدفع باتجاه فوضى
وانفلات أمني، إن لم تقم القوى النافذة بإفساح الطريق أمام تغيير حقيقي يؤسس
لمنظومة حكم وطنية قوية وشفافة، تحفظ في الوقت نفسه حقوق الطوائف، دون أن تكون
الحزبية الطائفية سبباً في تعطيل الدولة أو غطاء للفساد.