العدد 1613 /15-5-2024
سامح راشد
اتسع نطاق الضجّة
المُثارة بشأن مؤسّسة تكوين، التي أعلن تدشينها، أخيراً، كُتّاب ومُفكّرون عرب،
فبعد أن تعرضت المؤسّسة إلى حملة انتقادات حادّة في وسائل التواصل الاجتماعي،
تقدّم محامٍ ببلاغ إلى القضاء يُطالب بإغلاقها وتوقيف القائمين عليها. وبعد أن
أحال النائب العام البلاغ إلى أجهزة التحرّي للتدقيق والبحث، انتشرت مزاعم غير
صحيحة أنّ المؤسّسة قد أغلقت. إلى هنا يبدو الأمر مألوفاً ومعتاداً في مصر، وغيرها
من المجتمعات التقليدية، إذ يواجه المجتمع الأفكار المُخالِفة والطروحات الحداثية
بالمنع والإقصاء والتشويه. لكنّ الحملة المُضادّة لـ"تكوين" بدأت بعد
ساعاتٍ من احتفالية إعلان التأسيس، وبدأت الاتهامات تتوالى ضدّها، من دون معرفة
كافية بطبيعة المؤسّسة وأهدافها، وماهية دورها أو وسائل عملها. بدليل أنّ كلّ
قذائف الاتهام تصوّب نحو المؤسّسين وليس نحو المؤسّسة.
وبدأت وسائل
التواصل الاجتماعي تتناقل الانتقادات الحادّة، الخاصّة بتاريخ الأشخاص المُؤسّسين
وتوجهاتهم، وتعتبر أنّ مُجرّد وجود إبراهيم عيسى أو فاطمة ناعوت، فضلاً عن يوسف
زيدان، يكفي لفهم توجّهات تلك المُؤسّسة الجديدة وقراءتها. وإن كان التوافق في
التوجّهات مؤشراً حقيقياً على طبيعة الكيان، إلا أنّ الاستفاضة في إبراز مساوئهم
الذاتية وسلوكياتهم الشخصية، وما لهم من سوابق تُؤخذ عليهم في المجال العام، يُفقد
الهجوم الموضوعية، وبالتالي، الصدقية.
كان لافتاً
أيضاً، استدعاء الطرفيْن دور السلطة وموقفها، حيث ادّعى كلٌّ منهما أنّه مدعوم من
السلطة. فخرج بعض الإعلاميين المحسوبين على النظام ليعلنوا أنّ ما يُسّمونه
"الدولة" لا تقبل ولا توافق على أي خطوة أو توجّه ضدّ الأديان، وتقاليد
ومبادئ المجتمع. بينما سارع مؤسّسو "تكوين" إلى الردّ على الانتقادات
بأنّ التأسيس تمّ بموافقات رسمية، وأنّ الدولة تدعمهم من منطلق اهتمامها بتجديد
الفكر الديني في مواجهة التطرّف والرجعية. إنّ استحضار العامل السلطوي في مسألة
فكرية، مُؤشّر بالغ الدلالة لجهة انحدار الثقافة العامة، والانحسار الحضاري الذي
بات المجتمع المصري يعاني منه على وقع التجريف الفكري والمعرفي القائم. لكنّ الأخطر
أنّ هذا في ذاته، يكشف عمق الأزمة النُّخبوية في مصر. فإن كان ثمّة عذر أو تفهّم
لمزايدات مُعتادة ومُتوقّعة من الإعلاميين المُنبطحين، فلا عذر ولا تفسير مقبولين
لارتماء من يزعمون أنّهم نُخبة تنويرية في أحضان السلطة، والاستقواء بها في مواجهة
الانتقادات.
من علامات الجفاف
الفكري، أيضاً، غياب أي دعوة إلى مواجهة المؤسّسة الجديدة بالحوار أو حتّى لفهم ما
ترمي إليه ومحتوى رسالتها الفكرية، قبل إصدار حكم عليها. والمُخيف، أنّه ما من ردة
فعل أو موقف صدر عن أي طرف لا يتوافق مع التوجهات العلمانية والتجديدية التي يتبناها
مؤسّسو "تكوين"، بما في ذلك المحسوبون على الإسلام، من متصوّفة وسلفيين،
وغيرهم. وأياً ما كانت الأسباب، سياسية أو أمنية أو غير ذلك، لا عذر لأي تيارٍ أو
توجهٍ فكري، في التواري المُطلق، والتعامي بشكل كُلّي عن تلك المعركة، التي يفترض
أنّها فكرية وثقافية، وتغذّي بصورة صحّية الحراك العام في المجتمع. وبالتالي، فلا
مُفاجأة في أن تخرج الانتقادات من عامة الشعب والبسطاء، الذين يغضبون لأي شبهة
مساس بالدين، بغضّ النظر عن صحّتها أو زيفها.
هي معركة فقاعية،
لا مضمون متماسك فيها، بين نخبة مُتقعّرة، طالما اجترّت خطاباً زائفاً بشأن
الحرّية والحوار مع الآخر. وتيار شعبوي جارف، يمثل أغلبية المجتمع المصري غير
المُثقّف بطبيعته. وما بينهما أطراف لا مصلحة لها في المعركة، فتنأى عنها، سواء
حفنة القوى المُتأسلمة، التي تتمسّح بالدين وبالتقاليد وبالسلام الاجتماعي أو
السلطة، التي تلعب على وتر الجدل العام على طريقة "شوف العصفورة".