العدد 1649 /29-1-2025

الشيخ محمد الغزالي

ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف حيث تقطن ثقيف، وهي تبعد عن مكة نحو الخمسين ميلاً، سارها محمد صلى الله عليه وسلم على قدميه جيئة وذهوباً، فلما انتهى إليها قصد إلى نفر من رجالاتها الذين ينتهي إليهم أمرها، ثم كلمهم في الإسلام ودعاهم إلى الله، فردوه- جميعاً- رداً منكراً، وأغلظوا له الجواب. ومكث عشرة أيام، يتردد على منازلهم دون جدوى.

فلما يئس الرسول عليه الصلاة والسلام من خيرهم قال لهم: إذا أبيتم، فاكتموا عليَّ ذلك- كراهية أن يبلغ أهل مكة، فتزداد عداوتهم وشماتتهم- لكن القوم كانوا أخس مما ينتظر. قالوا له: اخرج من بلدنا، وحرّشوا عليه الصبيان والرعاع فوقفوا له صفين يرمونه بالحجارة. و"زيد بن حارثة" يحاول- عبثاً- الدفاع عنه حتى شج في ذلك رأسه.

وأصيب الرسول عليه الصلاة والسلام في أقدامه، فسالت منها الدماء واضطره المطاردون إلى أن يلجأ إلى بستان لعتبة، وشيبة، ابني ربيعة، حيث جلس في ظل كرمة يلتمس الراحة والأمن.

وقَفَلَ الرسول عليه الصلاة والسلام عائداً إلى مكة، إلى البلد الذي لفظ خيرة أهله، فهاجر بعضهم إلى الحبشة وأكره الباقي على معاناة العذاب الواصب، أو الفرار إلى شعف الجبال.

ولابد أن أخبار ثقيف قد سبقته إلى قريش، ومن ثَمّ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يدخل مكة حتى يستوثق لنفسه ودعوته. فبعث إلى "المطعم بن عدي" يعرض عليه أن يجيره حتى يبلغ رسالة ربه! فقبل "المطعم" واستنهض أبناءه فحملوا أسلحتهم ووقفوا عند أركان البيت الحرام، وتسنَّم "المطعم" ناقته ثم نادى: يا معشر قريش، قد أجرت محمداً، فلا يَهْجِه أحد منكم! فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلى ركعتين ثم انصرف إلى بيته، و"مطعم" وأهله يحرسونه بأسلحتهم.

عاد الرسول إلى مكة ليستأنف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله.

وبينا هو ماض في جهاده، إذ وقعت له قصة الإسراء والمعراج..

الإسراء والمعراج:

يقصد بالإسراء: الرحلة العجيبة التي بدأت من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس. ويقصد بالمعراج: ما عقب هذه الرحلة من ارتفاع في طباق السماوات حتى الوصول إلى مستوى تنقطع عنده علوم الخلائق ولا يعرف كنهه أحد، ثم الأوبة- بعد ذلك- إلى المسجد الحرام بمكة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى كلتا الرحلتين في سورتين مختلفتين، وذكر قصة الإسراء وحكمته بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.

وذكر قصة المعراج وثمرته بقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ- يعني جبريل- نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}.

فتعليل الإسراء -كما نصت الآية- أن الله يريد أن يري عبده بعض آياته. ثم أوضحت آيات المعراج أن الرسول عليه الصلاة والسلام شهد -بالفعل- بعض هذه الآيات الكبرى.

وقد اختلف العلماء من قديم: أكان هذا السُّرى الخارق بالروح وحده، أم بالروح والجسد جميعاً؟ والجمهور على القول الأخير.

إن الإسراء والمعراج وقعا للرسول عليه الصلاة والسلام بشخصه في طور بلغ الروح فيه قمة الإشراق، وخفّت فيه كثافة الجسد حتى تفصَّى من أغلب القوانين التي تحكمه. واستكناه حقيقة هذه الرحلة، وتتبع مراحلها بالوصف الدقيق، مرتبط بإدراك العقل الإنساني لحقيقة المادة والروح، وما أودع الله فيهما من قوى وخصائص. ولذلك سنتجاوز هذا البحث إلى ما هو أيسر وأجدى، أي إلى تسجيل المعالم المتصلة بالإسلام باعتباره رسالة عامة وتشاريع محددة.

وقصة الإسراء والمعراج تهمنا من هذه الناحية. ألم تر أن "علم النفس" لم يستبحر وينطلق إلا يوم تحرر من البحث في الروح والخبط في مدلولها؟؟

حكمة الرحلة إلى بيت المقدس:

لماذا كانت الرحلة إلى بيت المقدس، ولم تبدأ من المسجد الحرام إلى سدرة المنتهى مباشرة؟

إن هذا يرجع بنا إلى تاريخ قديم، فقد ظلت النبوات دهوراً طوالاً وهي وقف على بني إسرائيل، وظل بيت المقدس مهبط الوحي، ومشرق أنواره على الأرض، وقصبة الوطن المحبب إلى شعب الله المختار.

فلما أهدر اليهود كرامة الوحي وأسقطوا أحكام السماء، حلت بهم لعنة الله، وتقرر تحويل النبوة عنهم إلى الأبد! ومن ثم كان مجيء الرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم انتقالاً بالقيادة الروحية في العالم، من أمة إلى أمة، ومن بلد إلى بلد، ومن ذرية إسرائيل إلى ذرية إسماعيل.

وقد كان غضب اليهود مشتعلاً لهذا التحول، مما دعاهم إلى المسارعة بإنكاره {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}.

لكن إرادة الله مضت وحمَّلت الأمة الجديدة رسالتها، وورث النبي العربي تعاليم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقام يكافح لنشرها وجمع الناس عليها، فكان من وصل الحاضر بالماضي وإدماج الكل في حقيقة واحدة أن يعتبر المسجد الأقصى ثالث الحرمين في الإسلام، وأن ينتقل إليه الرسول في إسرائه، فيكون هذا الانتقال احتراماً للإيمان الذي درج- قديماً- في رحابه..

ثم يجمع الله المرسلين السابقين من حملة الهداية في هذه الأرض وما حولها ليستقبلوا صاحب الرسالة الخاتمة. إن النبوات يصدق بعضها بعضاً، ويمهد السابق منها للاحق. وقد أخذ الله الميثاق على أنبياء بني إسرائيل بذلك. {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ}.

وفي السنة الصحيحة أن الرسول صلَّى بإخوانه الأنبياء ركعتين في المسجد الأقصى فكانت هذه الإمامة إقراراً مبيناً بأن الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، أخذت تمامها على يد محمد بعد أن وطّأ لها العباد الصالحون من رسل الله الأولين.

والكشف عن منزلة محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ليس مدحاً يساق في حفل تكريم. بل هو بيان حقيقة مقررة في عالم الهداية، منذ تولت السماء إرشاد الأرض، ولكنه جاء في إبّانه المناسب