العدد 1654 /5-3-2025

عمر كوش

وجّه الزعيم الكردي عبد الله أوجلان رسالةً تضمّنت نداءً تاريخياً إلى حزب العمّال الكردستاني بحلّ نفسه، ومطالبة المجموعات المسلّحة برمي السلاح. وأعلن الحزب، في بيان أصدرته لجنته التنفيذية، وقف إطلاق النار مع تركيا، اعتباراً من الأول من شهر مارس/ آذار الجاري، لكن السؤال الذي يُطرح بعد هذه المبادرة الجريئة يطاول مدى استجابة المجموعات المسلّحة المؤلفة، سواء من مقاتلي حزب العمّال أم المجموعات المليشياوية التي تفرّعت منه في دول المنطقة، خاصّة في سورية، إذ يوجد فيها حزب الاتحاد الديمقراطي، الذراع السورية لحزب العمّال الكردستاني، وذراعه العسكرية "وحدات حماية الشعب"، التي تشكّل المكوّن الأساس لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرقي سورية.

جاءت رسالة أوجلان بعد ترقّب وانتظار من الأوساط السياسية والشعبية في تركيا، إضافةً إلى أوساط كردية في سورية والعراق، وقدّم فيها ما يشبه جردة حساب لعقود طويلة من عمل الحزب، تطرّق فيها إلى ظروف القرن العشرين، التي شكّل فيها هذا الحزب في عام 1978، في فترة كانت "الأكثر عنفاً في التاريخ"، إذ شهدت حربَين عالميتَين، إضافة إلى الحرب الباردة، وإنكار الهُويَّة الكردية في تركيا. واعتبر أن "العمّال الكردستاني" استكمل دوره، وبالتالي بات حلّه، كغيره من الحركات المشابهة، ضرورياً بالنظر إلى تأثّره أيديولوجياً واستراتيجياً بالنظام الاشتراكي، الذي انهار دراماتيكياً في تسعينيّات القرن الماضي، إضافة إلى أن التطوّرات الحاصلة في حرّية التعبير أفقدت هذا الحزب معناه، وراح يكرّر مواقفه بإفراط.

إذاً، الحزب الذي كان تشكيله ضرورةً في نظر مؤسّسه فيما مضى من السنوات، بات حلّه ضرورةً أيضاً في نظر مؤسّسه نفسه، ولا تخفي هذه الضرورة القاضية بحلّ هذا الحزب أن مبادرة أوجلان جاءت استجابةً لدعوة وجّهها الزعيم التركي القومي دولت بهتشلي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي (2024)، وقوبلت بمواقف إيجابية من مختلف الأحزاب التركية، فيما تولّى حزب المساواة وديمقراطية الشعب مهمّة الوساطة والاجتماع مع أوجلان في سجنه، وذلك بناء على الرضا الإيجابي الذي أبداه الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، الأمر الذي دفع أوجلان إلى توجيه رسالة تاريخية، طلب فيها (في سابقة هي الأولى من نوعها) حلّ الحزب الذي شكّله، إضافة إلى رفضه دعوات الانفصال القومي، ومعها مختلف دعوات الحكم الذاتي والفيدرالية، على خلفية اعتبارها "حلولاً ثقافوية لا تلبي متطلّبات الحقوق الاجتماعية التاريخية" للمجتمع التركي، بينما أبرز ضرورة اتحاد الأكراد والأتراك في مجتمع ديمقراطي، ينهض على "احترام الهُويَّة، وحرّية التعبير، والممارسة الديمقراطية، وبناء هياكل اجتماعية واقتصادية وسياسية لمكوّنات الشعب كلّها، وفقاً لأسسها الخاصّة".

يأمل المسؤولون الأتراك، ومعهم أحزاب المعارضة وقطاعات واسعة من الشعب التركي، أن تُفضي مبادرة أوجلان إلى فتح باب تسوية تاريخية، تنهي صراعاً دامياً، امتدّ أكثر من خمسة عقود في تركيا، وحصد أرواح عشرات آلاف الضحايا، فضلاً عن إرهاصاته وامتداداته في الداخل التركي ودول الجوار. ولعلّ نداء أوجلان يمكنه أن يشكّل فرصةً حقيقيةً لإنهاء العنف، وفتح الباب أمام إيجاد تسوية سلمية للمسألة الكردية في تركيا، ويفسح المجال أمام انعكاساتها الإيجابية على الأوضاع في دول المنطقة، خاصّة سورية، إذ تسيطر مخرجات الذراع السورية لحزب العمّال الكردستاني على مناطق شمال شرقي الفرات، وتعتبرها تركيا مصدر قلق أمني لأمنها القومي.

يبدو أن نداء أوجلان قد يلقى آذاناً صاغية لدى بعض مقاتلي حزب العمّال في تركيا، لكن الأمر مختلفٌ بالنسبة إلى معظم قيادات الحزب في جبال قنديل المهيمنة على أذرعه في سورية والعراق، فيُستبعَد أن يستجيب فرعه السوري للنداء، بالنظر إلى أن مخرجاته العسكرية، وخاصّة "قسد"، التي تشعر أنها في وضع قوي، لأنها تسيطر على ثلث مساحة سورية تقريباً، وتحظى بدعم قوات التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الأمر الذي يفسّر مسارعة قائد مليشيا "قسد"، مظلوم عبدي، إلى التذرّع بأن نداء أوجلان موجّه فقط إلى حزب العمّال الكردستاني في تركيا، ولا يشمل أذرعه في سورية والعراق، ولا علاقة لمليشياته بمطالبة أوجلان.

تركيا معنية أساساً بنداء أوجلان، وتترقّب خطوات "العمّال الكردستاني" اللاحقة، لكن المشكلة أن أطرافاً إقليمية ودولية عديدة تدعم الحزب، وهناك تقارير عن تزايد الدعم الإيراني في الآونة الأخيرة لهذا الحزب وللمليشيات المسيطرة في مناطق شمال شرقي سورية. ولذلك كان لافتاً أن يحذّر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إيرانَ من تداعيات أيّ دعم تقدّمه لـ"قسد" أو أيّ أطراف أخرى في سورية، بغية إثارة الاضطرابات، وطالب إيران بضرورة تخلّيها عن سياساتها، واعتبر بلغة لا تخلو من التهديد أن أيّ محاولة لإثارة الفوضى في بلد آخر، قد تؤدّي إلى ردّات فعل مماثلة من طرف بلد آخر.

تعوّل تركيا على استجابة مقاتلي حزب العمّال الكردستاني لنداء أوجلان، وانتقالهم إلى العمل السياسي في تركيا من خلال الأحزاب السياسية، مثل المساواة وديمقراطية الشعوب، المؤيّد لحقوق الأكراد، بما يُفضي إلى إنهاء القضية الكردية في تركيا، وإزالة النهج الأمني المميّز لعلاقاتها مع مناطق في شمالي العراق وسورية، بغية تحسين وضعها الاقتصادي، وتعزيز سلمها الاجتماعي. في المقابل، من المرجّح أن تتّخذ القيادة التركية سلسلةً من الخطوات باتجاه البدء بعملية سلام داخلي، من خلال تبنّي سياسة شاملة لمعالجة القضية الكردية، وإصدار عفو تشريعي عن أعضاء حزب العمّال الكردستاني الذين يلقون سلاحهم، إضافة إلى اعتماد المادّة الثالثة من الاتفاق الأوروبي لحقوق الإنسان، التي تعرف باسم "الحقّ في الأمل"، وتحدّد أحكام السجن بخمسة وعشرين عاماً، والاستناد إليها من أجل إطلاق سراح أوجلان من السجن.