العدد 1537 /16-11-2022
أنور الجمعاوي
حركة الانتقال من نظام سياسي
إلى آخر، سواء بإرادة الحاكم الفرد وأعوانه أو صدرت عن حراك احتجاجي شعبي، هي لحظة
فارقة، تتشوّف معها الجموع إلى غد أفضل. ومع أنّ ما حدث في تونس يوم 25/07/2021 لم
يكن ثورة شعبيّة ولا انتفاضة عارمة، بل كان حركة احتجاجيّة محدودة في مدن معدودة على
أداء الحكومة والبرلمان، فإنّ الرئيس قيس سعيّد اغتنم تلك الفرصة الاحتجاجيّة، ليعلن
عن جملة من التّدابير الاستثنائيّة الجوهريّة التّي انتقلت بمقتضاها البلاد من نظام
سياسي شبه برلماني إلى نظام رئاسوي مطلق. وتأكّد ذلك من خلال أمر الرّئيس بغلق البرلمان
المنتخب، وتغيير الدّستور التّوافقي (2014)، ووضعه قانونا انتخابيّا على مقاسه. ووعد
حاكم قرطاج الجموع بمقاومة الفساد والاحتكار، واستعادة الأموال المنهوبة، ووضع حدّ
لغلاء الأسعار، وتحسين الوضع المعيشي للنّاس، والتّصدّي للمفسدين والمستكرشين، والانتصار
للمستضعفين.
من بين المشاهد الصادمة المتداولة
على شبكات التّواصل الاجتماعي (صفحة رصد التونسية على فيسبوك في 06/11/2022)، والتّي
خلّفت أسى واسعا في صفوف التونسيين، مشهد امرأة معدمة، وقفت صارخة، غاضبة أمام مقرّ
محافظة تونس رفقة طفليها، وعمدت إلى سكب البنزين عليهما وعلى نفسها، مهدّدة بحرق الجميع
بسبب غلاء المعيشة، وعدم قدرتها على تأمين الحاجيات الأساسيّة لأفراد أسرتها. وحملت
تلك الحركة الاحتجاجيّة العنيفة طيّها عدّة دلالات، فهي تُخبر بإحباط عميق سكن الأمّ،
ودفعها إلى التّضحيّة بنفسها وطفليها تعبيرا عن ضيقها بمعيشةٍ ضنكى، وحياة مرهقة، مكلفة،
أضنتها، ولم تعد قادرةً على تحمّل تكاليفها اليوميّة الثقيلة. وقد انتهجت العنف الاحتجاجي
طريقة للتّعبير عن عجزها، وقلّة ذات يدها، وفشلها في إعالة طفليها في زمنٍ غلب عليه
الغلاء، وقلّت فيه مواطن الشّغل. وهمّت تلك المرأة بتدشين مشهد انتحار جماعي عائلي
أمام مقرّ المحافظة، رغبة منها في إيصال صوتها عاليا إلى السّلطة المحليّة التّي يبدو
أنّها لم تفتح لها الأبواب سلميّا ولم تتفاعل مع شكواها ومعاناتها إيجابيّا، فعمدت
إلى انتحاء نحو الاحتجاج العنيف حتّى يُنصت إليها أصحاب القرار. ولولا تدخّل أحدهم
والسّيطرة عليها ومنعها من حرق نفسها وابنيها لكانت الكارثة. وكشفت الحادثة حجم معاناة
طيف من التّونسيين في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة الخانقة التّي تشهدها البلاد، فوطأة الغلاء
ومحدودية أسباب الرّزق وتدهور المقدرة الشّرائيّة جعلت كثيرين يعانون شظف العيش. فيما
تبدو هياكل السّلطة القائمة غير جادّة في إيجاد حلول استعجاليّة لمشكلات ذوي الدّخل
المحدود خصوصا، والمهمّشين عموما الذّين أدمتهم سياسات التّقشف وحكومة الاجتباء في
زمن الاستثناء.
ولا يخفى على عين النّاظر
أنّ مشهد وقوف تونسيين في صفوف طويلة أمام المحلاّت الغذائيّة والمخابز قد غدا مألوفا
في ظلّ الجمهوريّة الجديدة، لكنّ ما لفت الانتباه أخيرا أنّ المستهلكين أضحوا يتدافعون
بشكل فوضوي في هذا المحل أو ذاك للظفر بكيس سكّر أو بقارورة حليب، فقد تداول ناشطون
على شبكات التواصل الاجتماعي صوراً ومشاهد لشيب وشباب ونساء وأطفال يتهافتون ويتزاحمون
من أجل تحصيل قوتهم اليومي وتأمين حاجاتهم الغذائيّة الأساسيّة في ظلّ شحٍّ فادحٍ في
المواد الاستهلاكية الضروريّة في السّوق التّونسيّة. ولا غرابة أن يُخبرك أحدهم بأنّه
أمضى سحابة يومه في البحث عن الدّقيق أو السّكر أو الزيت النباتي أو الحليب وغيره ممّا
تحتاجه الأسر التّونسيّة ليستقيم معاشها.
صورة أخرى هزّت الضمير الجمعي
التونسي هذه الأيّام، يتعلّق الأمر بمشهد امرأةٍ جلست عند شاطئ مدينة جرجيس، تتشوّف
للظفر بشيءٍ من أشياء ابنها المفقود الذي غرق رفقة 17 آخرين في مركب للهجرة غير النظامية.
كانت تُحاذي البحر ساعات طويلة عسى أن يبوح بجثّة ولدها أو بأشلائه أو حتّى بملابسه
حتّى تضمّه إليها ثانية، وتودّعه الوداع الأخير ... على الطرف الآخر من المدينة، ظهرت
صورة جدّة، ترابط أمام "مقبرة الغرباء"، تنتظر نتائج النبش في القبور عسى
أن تجد جثّة حفيدها الهالك، بعد أن تبيّن أنّ السلطات المحلّية بادرت بدفن بعض ضحايا
القارب المنكوب في مقبرة الأجانب، والحال أنّهم من أبناء المدينة. وذلك راجع إلى عدم
تثبّتها من هويات الهالكين، وعدم إحالتها جثثهم على التحليل الجيني قبل الإذن بدفنها.
وفي مشهدٍ مؤثّر، قالت تلك الجدّة الثكلى لفتاة أخرى "هنيئا لك لعثورك على جثة
أخيك. أمّا أنا فسأظلّ أنتظر إلى ما لا نهاية جثّة حفيدي المفقود"، فبدا الظفر
بجثّة القريب الغائب أو المدفون على غير روية غنيمةً في هذا الزمن الأغبر. وفي الأثناء،
تواترت الصور والمشاهد من شوارع المدينة، كاشفة احتشاد المحتجّين وهتافهم ضدّ النظام
القائم. وأغلبهم يتساءل: أين رئيس الجمهورية؟ أين الحكومة؟ لماذا تركتنا أجهزة الدولة
للمجهول، ولم تُجر تحقيقا استعجاليا شاملا في الكارثة؟ لماذا لا يلتفتون إلينا؟ حتّى
متى ستبقى مدينتنا منسية، مهمّشة، بلا تنمية، ولا مواطن شغل رغم ثرواتها الكثيرة؟ لماذا
لا تضغط السلطات التونسية على الشريك الأوروبي من أجل تيسير حصول التونسيين على تأشيرات
لمّ الشمل؟ حتّى متى سيبقى أبناؤنا فريسة لليأس والبطالة وغدر البحر؟!
على صعيد آخر، عجّت شبكات
التواصل الاجتماعي بصور مدارس ابتدائية تونسية، تعطّلت فيها الدروس على امتداد شهرين
من انطلاق العام الدراسي. وتواترت شهادات أولياء يشتكون حرمان أبنائهم من التعلّم طوال
أسابيع. وذلك بسبب مقاطعة المعلّمين النواب التدريس لعدم جدّية وزارة التربية في انتدابهم
وترسيمهم، تسوية أوضاعهم المهنية، واستمرارها في تشغيلهم بطرق تعاقدية هشّة. ونتيجة
هذا الخلاف، وجد آلاف التلاميذ أنفسهم خارج مقاعد الدراسة. وتتعمّق المأساة في المناطق
الداخلية والطرفية، أين يقطع التلميذ أميالا على قدميه ليبلغ باحة المدرسة، فإذا بها
خِلوا أو تكاد من المعلّمين.
أمام كثرة الصور المربكة والمشاهد
المؤلمة في تونس الجديدة، وتواتر الانتهاكات البوليسية ضدّ مواطنين، وإفلات الجُناة
من العقاب، تناقلت شبكات التواصل الاجتماعي (5/11/2022) مبادرة شابٍّ برسم صور على
الجدران، ضمّنها فصول الدستور الفعلي الذي يحكم البلاد من وجهة نظره، فجاء في صورة
الفصل الأوّل: "تونس دولة قمعية"، وفي الثاني: "تونس تقوم على إدارة
البوليس وعُلوية قانون الغاب"، وفي الثالث: "الخونة هم أصحاب السيادة ومصدر
السلطات"، وفي الرابع: "شعار الجمهورية التونسية: قمع، ظلم، قهر، قتل"،
وفي الخامس: "تونس جزء من مستعمرة، وتعمل على تحقيق أهداف المستعمر، وتتخذ كافّة
التدابير لتجسيمها"، وفي السادس: "تلتزم الدولة بنشر التحريض على الكراهية
والعنف"، وفي السابع: "الشباب قوّة فاعلة في بناء المجتمعات الأجنبية".
ومعلوم أنّ رئيس الجمهورية قيس سعيّد سبق أن قال: "الدستور الحقيقي هو الذي خطّه
الشباب على الجدران". وبدا واضحا أن الدستور الشبابي المخطوط على الحيطان الآن
وهنا جاء مضادّا لتدابير الرئيس الاستثنائية، ومراسيمه الفوقية، ودستوره المفروض على
الناس، ومدينا لسطوة الدولة البوليسية القامعة. ودلّ على إحساس الجيل الصاعد بالحيف،
والغُبن، والقهر، والظلم، والتهميش، وضيقه بالعيش في ظلّ الجمهورية القيسية الجديدة.
وأنت تشاهد تلك الصور وغيرها
تتبيّن أن تونس تغرق في مشكلاتها العديدة وأزماتها المتفاقمة من يوم إلى آخر... وفي
الأثناء، يهرُب الرئيس إلى الأمام، يبحث عن أعداء في الداخل والخارج، يتحدّث عن مندسّين،
وخونة، وعملاء يتآمرون على "منجزاته الفخمة"، وأحلامه الطوباوية، ووعوده
المعلّقة. ولا تقدّم حكومة نجلاء بودن الواقعة تحت جبّته، والملحقة بقصره حلولا استعجالية/
عملية لطفلٍ يريد حليبا، ولكهلٍ أدمته البطالة، وأمّ أعدمها الفقر، وشباب أكله البحر،
وصبية تتهدّدهم الأمّية...
يبقى السؤال: هل هذا هو
"العلو الشاهق" الذي وعد به الرئيس قيس سعيّد الشعب التونسي؟!