العدد 1686 /22-10-2025
سمر يزبك
من غزّة والمدن
السورية المهدّمة إلى جنوب لبنان، مروراً بالضاحية الجنوبية لبيروت، تتكاثر المدن
المحطّمة جثثاً رماديةً، ينهض فيها الركام جغرافيا بديلةً، وكأنّ الخرسانة
المطحونة أصبحت اللغة الوحيدة التي توحّد ما تبقّى من هذا الشرق البائس. توقّفَ
الدمارُ عن أن يكون حدثاً استثنائياً في بلادنا، لقد صار نظاماً جديداً للوجود؛
أصبح الحدّ الفاصل بين ما كان يُسمّى وطناً وما صار جرحاً مكشوفاً في خرائط القتلة
والمانحين. مدن بلا ذاكرة، وأجيال تعيش على حواف الدمار تبحث في الغبار عن شكلٍ
لحياتها المقبلة. لم تعد المسألة عمرانية أو سياسية فحسب، فحين يتكرّر الخراب بهذا
الاتساق، يصبح هو المعنى ذاته، ويغدو الواقع العربي مجرّد إعادة إنتاجٍ دائمة له،
حيث لا مكان للإنسان إلا بين الأطلال التي صنعها حلمه بالحرية. لم يعد هذا
استثناءً في المشهد العربي، بقدر ما صار بنيته التحتية. في كل مدينة مدمَّرة شعورٌ
بأن الخراب خرج من قلب المكان نفسه ولم يأت من الخارج، كأن العمران كان يحمل بذور
فنائه منذ البداية. ومن تحت الأنقاض ينهض السؤال عن المعنى: كيف تحوّل الحطام إلى
الذاكرة الوحيدة المتبقية؟ تتشابه الصورة إلى حدّ الفضيحة. ما يُرى طقوسٌ متكرّرة
للمحو: محو الذاكرة، والفضاء، ومحو حضور الإنسان في المكان. الخرسانة التي كانت
وعداً بالحداثة والغد، أصبحت جثّة الحداثة نفسها، صلبةً، باردةً، بلا روح. هكذا
صار الركام أشبه بـ"الهُويَّة المعاصرة" للعالم العربي، هُويَّةٌ من
الغبار والرماد، لا تُعرَّف بالزمن ولا بالجغرافيا.
لم يكتفِ
الاحتلال الإسرائيلي بتفجير الأبنية في لبنان وغزّة. لقد أعاد رسم الخرائط
بالحطام، ليرضي غرور مستوطنيه وخوفهم من أشباح جريمتهم وتداعياتها، وليجعل من
الركام جزءاً من استراتيجيته الأمنية: جغرافيا يمكن مراقبتها، أرضٌ بلا ذاكرة،
وسماء مفتوحة على الطائرات. التدمير هنا سياسة ممنهجة، ليست ضد الذين يقاومونه
(اتفقنا أم اختلفنا معهم) إنما ضدّ فكرة الاستمرار الفلسطيني واللبناني في الوجود
شعبين فوق أرضهما. أمّا في سورية، فقد جعل الأسد الخراب لغةً للحكم، وأداةً لإعادة
تعريف الوطن وفق منطق الولاء، فالمدن التي تجرّأت على أن تحلم جرى محوها، ثم وُعدت
بإعادة إعمارها تحت رقابة من دمّرها. ولم يأتِ الروسي والإيراني لإنقاذ النظام
فقط، بقدر ما كان يهمهما تثبيت معادلة القوة فوق أنقاض البشر. في هذا السياق، يصبح
الركام وثيقةً سياسيةً: كل جدار مهدوم يحمل توقيع سلطةٍ تقول "أنا هنا".
حديث الإعمار
بدوره، صار طقساً تبريرياً يرضي الضمير العالمي ويُسكت الأسئلة. من سيموّل البناء
هو نفسه من صمت عن القصف، ومن يتعهّد بالمساعدات هو من صمت وتواطأ لاستمرار النظام
ودعم الاحتلال. لا أحد يريد أن يرى أن الركام ليس مجرّد مادّة خلّفها انهيار
المباني بقدر ما هو شاهد أخلاقي على هذا العالم الظالم، وأن تنظيفه السريع يعني
محو الذاكرة. قد تُبنى الأبراج والأبنية في المكان ذاته الذي قُصفت فيه البيوت
ودمّرت، لكنّ المدينة لن تعود كما كانت؛ ستعود حزينةً، بلا ملامح. بهذا المعنى،
"الإعمار" ليس فعل حياة، بقدر ما هو تسوية مع الموت، وترتيب أنيق
للجريمة. المفارقة القاسية أن الذين حلموا بالمستقبل وحاولوا صنعه يعيشون الآن في
زمنٍ بلا مستقبل. الحرية تحقّقت لحظةً، ثمّ سقطت تحت الركام الذي ابتلع كل شيء،
حتى معناها. والمدن التي كانت مرايا لسكّانها تحوّلت شاهداً على غيابهم، والمكان
الذي كان يروي تاريخ الناس صار يروي تاريخ من دمّروه. الركام يعلو على الذاكرة،
يفرض سرديّته بصمتٍ أثقل من أيّ خطاب سياسي آخر، كأنه المرآة الأخيرة التي يرى
فيها هذا الشرق وجهه الحقيقي.