العدد 1652 /19-2-2025

لم يمضِ على تسلّمه السلطة بضعة أسابيع، لكنه نجح في استعداء العالم بسرعة غريبة ومدهشة، لم يترك أحداً من الشرق أو الغرب، قريباً أو بعيداً، إلا وعاداه وخلق أزمة معه. الرئيس الأميركي دونالد ترامب نجح بشكل عجيب في خلق أزمات مع الجميع، شمالاً مع كندا، وجنوباً مع المكسيك ومن جاورها، يخاصم أوروبا، يعادي العرب، أو جزءاً فقط من العرب، يستفز ويهدد إيران، والصين وجنوب أفريقيا، والمنظمات الأممية، حتى وزاراته في الداخل ومؤسساته الثقافية، كلها يعاديها ويفجّر خلافات معها.

وهو طبعاً يدرك ما يفعل، ليس الأمر بالتأكيد اعتباطياً، فهو يريد أن يقول للجميع إنه سيّد العالم وملِكه الجديد، وعلى الكل أن ينصاع لأوامره وابتزازه وأن يذعن لأوهام ورغبات القائد الجديد. وطبعاً تتفاوت الردود، بين من يطيع وبين من يهرول مقدماً آيات الولاء والطاعة، لكن كثيراً من هذا العالم بدأ يتململ ويعلن رفضه هذا المشهد الجديد الذي يريد ترامب أن يجعله تحت إمرته. وكان رد وزير الخارجية الجنوب أفريقي رونالد لامولا على قرار ترامب قطع المساعدات عن بلاده واضحاً وصريحاً ومعبراً عن جزء من كرامة هذه الإنسانية التي ترفض هذا النظام العالمي الظالم. فقد قال في مقابلة مع صحيفة فاينانشال تايمز، الأربعاء الماضي، إن ذلك لن يثني بريتوريا "عن المضي قدماً في الدعوى التي رفعتها ضد إسرائيل بشأن الحرب على غزة".

تشديد لامولا على أنه "لا مجال لسحب الدعوى رغم تهديدات ترامب" قابله تأكيده أن "الدفاع عن مبادئنا له عواقب في بعض الأحيان، لكننا نظل ثابتين في اعتقادنا بأن ذلك مهم للسلام وسيادة القانون". وهو بذلك يوضح جوهر القضية، أن تكون ثابتاً دفاعاً عن السلام العالمي وعن سيادة القانون التي بدأ ترامب بضربها حين استهدف المؤسسات القضائية الدولية فقط لأنها دانت أصدقاءه المدللين. رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين توعدت هي أيضاً بالرّد على ترامب في حال نفذ تهديده بفرض الرسوم الجمركية المتبادلة العالمية، وكثير من القيادات الأوروبية والصينية توعده بالمعاملة بالمثل. حتى من داخل بيته، وقّع 145 عضواً في الكونغرس، الخميس الماضي، على رسالة يطالبون فيها ترامب بالتراجع عن تصريحاته بشأن بسط الولايات المتحدة سيطرتها على قطاع غزة، فيما خرج معارضون في مدن أميركية عديدة ينددون بهذه الأفكار الظالمة.

لكن مثل ترامب لا يُرد عليه بمجرد كلمات وتصريحات فردية ومشتتة، وهو لا يفهم ولا يكترث للأصوات والمواقف الهادئة الناعمة. يلزمه رد قوي، ويلزمه بالخصوص موقف موحد، أن يجتمع كل هؤلاء من العالم للرد عليه بصفة قوية وجادة وسريعة، لأنه لن يتوقف إلا إذا جرى إيقافه بقوة، بنفس قوة ونبرة اللغة التي يتحدث بها، بتلك العنجهية. فمتى يثور العالم ضد هذا الظلم الجديد؟ هذا سؤال ستتعيّن الإجابة عليه سريعاً وبشكل موحد، لأن الوقت ينفد، ولأن الذئاب تريد أن تستفرد بضحيتها وتعزلها قبل أن تفتك بها. وسنرى قريباً كيف سيكون اجتماع العرب في القاهرة (قمة عربية طارئة في 27 فبراير/شباط الحالي) للرد على ترامب، وستكون أول بروفة لفهم هذا المشهد الجديد، وإن كان كثيرون يعرفون الإجابة مسبقاً.

هي لحظة تاريخية دولية استثنائية، ولكنها بالذات لحظة عربية لن تتكرر، لأنها ستحدد مستقبل العالم العربي، بما ستنتجه من تضامن ممكن، أو شروخ عميقة في الجسد العربي ستزيد من حالة الفُرقة التي نعرف. وربما يعتبر كثيرون أنها لحظة الحقيقة التي تأخرت، وتوارت خلف التصريحات والمواقف المنمقة، والأفضل أن ينكشف الكل في هذا الامتحان أمام هذه الشعوب العربية التي تبكي قدسها. لقد أثار ترامب أسئلة إنسانية عميقة وفرض على شعوب العالم أن تواجه حقيقتها وتحدد في أيّ صف هي، وأن تجيب بوضوح، هل تبقى من الإنسانية شيء أمام هذا التوحش وهذه المادية الطاغية؟