العدد 1619 /3-7-2024
بهي الدين حسن
رتّب وزير الدفاع في حينه، قبل 11 عاماً، عبد
الفتاح السيسي، انقلاباً عسكرياً، بالتعاون مع الأجهزة الأمنية، على أوّل رئيس
جمهورية مُنتخب بحريّةٍ في مصر منذ يوليو/ تموز 1952، مستفيداً من وجودِ نقمةٍ
شعبيةٍ واسعةٍ على أداءِ الحكومة التي كان قد شكّلها الحزب المُنبثق عن جماعةِ
الإخوان المسلمين. بعد 11 شهراً صار رئيس الجمهورية الفعلي المُتوّج (السيسي)
رئيساً رسمياً لمصر في يونيو/ حزيران 2014. لم يعدْ هذا الانقلاب يحتاجُ ثورةً
لإطاحته، فقد مات فعلياً، لكن مراسم دفنه لم تجر بعد.
تتبخّر المشروعية السياسية والأخلاقية لنظام
الحكم، فقد قادَ البلاد إلى أسوأ كارثةٍ اقتصاديّةٍ في تاريخها الحديث منذ 150
عاماً، وحوّلها إلى أكبر دولةٍ متسوّلةٍ، بعد أن قوّض ما بقي من إنتاجها الاقتصادي
الزراعي والصناعي، ورفعها إلى مصافِ ثاني أكبر دولة مديونة، وأدخلها قائمة البنك
الدولي لأكثر عشر دول ارتفاعاً في تكلفة المعيشة مقارنةً بالدخل، وضاعف من عدد
فقرائها، ورهن إضاءة منازل المصريين ودوران ماكينات مصانعهم بإمداداتِ الغاز من
إسرائيل، وهبط بمكانةِ مصر السياسية في إقليمها العربي إلى مستوى متدنٍّ لم تعرفه
حتى عندما كانت تحت الاحتلال البريطاني في النصف الأوّل من القرن العشرين، فقد
صارت القرارات الإقليمية الكبرى التي تتعلّق بالعالم العربي يجري اتخاذها في عواصم
عربية أخرى، حتى من دون تشاور مع القاهرة، التي كانت مركز القرار الإقليمي العربي
منذ 1945 عندما كانت تحت حكم الملك فاروق.
فقد انقلاب 3 يوليو (2013) شرعيّته السياسية
والأخلاقية، ومات وظيفياً، وتُوشك الديدان على نهشِ جثته، وتتحوّل لنهشِ البلاد
ذاتها، بدءاً بالمعارضة، العلمانية والإسلامية، التي تتوانى عن إجراءِ مراسم دفن
تليق بمناسبةٍ كهذه، فما زالت أطرافٌ أساسيةٌ في كهوف كلا جماعتي المعارضة
العلمانية والإسلامية أسيرة كهف "3 يوليو"، حتى بعدما تملّص عبد الفتاح
السيسي مبكّراً من وعود "3 يوليو" التي سبق أن تعهد بها لحلفائه/ ذيوله.
لا شك في أنّ هناك أخطاء وجرائم سياسية وأخلاقية جسيمة، بل وقاتلة، ارتكبتها كلٌّ
من جماعتي المعارضتين، الإسلامية والعلمانية، منذ ثورة 25 يناير (2011). لا يجب أن
تمر هذه الأخطاء/ الجرائم من دون تقييم صارم، من أجل المصالح العليا لمجموع
المصريين ومستقبلهم، ومن أجل صالح كلا الجماعتين، وشهدائهما. ولكن هناك فارقاً
هائلاً بين منطق المكايدة التافهة التي ترفض مغادرة كهف لحظة سابقة وبين إجراء
تقييم يستهدفُ استخلاص الدروس ووضع خريطة طريق آمنة للمستقبل تتوخّى المصالح
العليا السياسية والاقتصادية والروحية للأمّة المصرية، بصرف النظر عن الدوافع
الإيديولوجية الخاصة والانتماءات الدينية.
لم يعد "عالم" عام 2013 موجودًا، وليس
فقط الرئيس الراحل محمد مرسي. صار العالم العربي منطقة أخرى مختلفة تماماً عمّا
كانت عليه قبل 11 عاما. حيث يتنافس الآن
على نهشها إيران وإسرائيل وتركيا. أمّا الجارة الأهم على الضفة الشمالية للبحر
الأبيض المتوسّط، أوروبا، فتسير في اتجاهٍ معاكس لذلك الذي سارت فيه منذ نهاية
الحرب العالمية الثانية منذ 80عاما. بينما ما زالت جماعات المعارضة العلمانية
والإسلامية تسكنُ كهفاً آخر أكبر وأعتق، ذلك الذي ولدت فيه في سياق الكفاح من أجل
الاستقلال الوطني منذ نحو 75عاماً.
تحقّق الاستقلال، وذهب الاستعمار (باستثناء
فلسطين)، لكن خطاب المعارضات لم يغادر الكهف العتيق، مثله مثل الوله بالعقد
الاجتماعي البائس والمُنقرض الذي ولد في ذلك الزمان، والقائم على مبادلةِ الخبز
بالحريّة. قد تختلف لكنة المعارضة القومية عن اللكنة الاشتراكية عن اللكنة
الإسلامية، لكن الثلاث تتفق في أمورٍ عديدة جوهرية، فهن يُجمعن على اللامبالاةِ
بالمهمّة الأسمى لخلق الثروة العامة للدولة وتنميتها، ولكنها تمنح، في الوقت نفسه،
أولوية لسبلِ تحقيق التوازن في توزيع الفقر. كذلك تتفق اللكنات الثلاث للمعارضة في
تشدّقها قولاً بالديمقراطية وحقوق الإنسان، مثلّما تتفق في التواطؤ فعلياً على
تهميشها. ونظراً إلى افتقارِ كلّ من جماعتي المعارضة العلمانية والإسلامية إلى
مشروع تنموي وسياسي قابل للحياة في القرن الحادي والعشرين، فإنّها صارت مجرّد
أوراق لعب يستخدمها الأقوياء لحسابهم الخاص، أو لمناورةِ أطراف أخرى بالتبادل.
هذا ما فعله العسكر بمهارة منذ انتفاضة يناير
(2011). واقع الأمر أنّه لم يكن هناك احتياج للعسكر للتسلّح بأيّ مهارات جديدة؛
فلم يخترع عسكر القرن الواحد والعشرين (عمر سليمان والمشير حسين طنطاوي وعبد
الفتاح السيسي) تكتيكاً جديداً في مواجهةِ الانتفاضة، لقد اكتفوا بمراجعةِ كتالوج
جمال عبد الناصر ثم أنور السادات في استخدامِ هذه الجماعات ضدَّ بعضها، لصالح
تأبيد حكم العسكر في خمسينيات القرن الماضي وسبعينياته.
أحد أسباب الخلل الهائل في الأداء السياسي
للمعارضة، بكلّ تياراتها، وتسهيل التلاعب السياسي الانتهازي بها، أنّها ما زالت
تعيش وتتنفس أفكار (وشعارات ومواجهات) مرحلة التحرّر الوطني التي انقضت منذ نحو 70
عاماً. بينما تتطلّب مرحلة النهوض السياسي والاقتصادي والعلمي والمجتمعي
استراتيجيات وخططاً وأولويات ومشاريع وسياسات مختلفة تماماً للدولة والمجتمع. من
المنطقي أنّ أيّ مهام متبقية من مرحلة التحرّر الوطني يجرى استكمالها في سياقِ
مرحلةِ الانطلاق إلى الأمام جديدة، ولكن ليس بتأبيدِ مرحلةٍ سابقة.
هذا ما فعلته شعوب أخرى دفعت ثمناً باهظاً من أجل
تحرّرها الوطني، وأدركت مبكّراً أنّ الاستقلال ليس هدفاً بحدِّ ذاته أو محطّة
النهاية، بل نقطة انطلاق لمحطّةٍ كفاحيةٍ تاريخيةٍ من نمط آخر، تستثمر فيها تحرّر
إرادتها كدولة، لكي تطلق كلّ طاقاتِ شعوبها الإبداعية وتتنافس مع باقي الدول، بمن
في ذلك الدولة الاستعمارية التي كانت تحتلها. هذا ما فعلته البرازيل التي كانت
ضحية الاحتلال البرتغالي، وهي بحكم الجغرافيا تقع في الفناء الخلفي للولايات
المتحدة، لكنها صارت ضمن الدول الصناعية العشر الأولى في العالم. مثال آخر، الهند
التي مكث فيها جيش الاحتلال البريطاني أكثر من ضعف الفترة التي احتلّ فيها مصر.
وفي سياق الاستقلال عانت الهند من صراعاتٍ داخليةٍ دامية أدّت إلى انفصال باكستان
عنها (كانت تتضمن بنغلاديش أيضاً، قبل انفصالها عنها). مع ذلك، صعدت الهند إلى
قائمةِ أبرز خمس دول صناعية، حيث يتجاوز إنتاجها الإجمالي المحلي إنتاج مستعمرها
السابق، أي الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس. بينما انحطّت مصر، فبدأت
تعرف طريق الاقتراض والاستدانة منذ عهد عبد الناصر، حتى أدمنته، وصارت حالياً تزحف
على بطنها استجداء دول الخليج وأوروبا وأميركا والمؤسّسات المالية الدولية.
يقول المؤرّخون إنّ الهزيمة التاريخية التي لحقت
بمصر في يونيو/ حزيران 1967 لم تكن حتمية، لأنّ المعركة ذاتها لم تكن حتمية، لولا
حماقة رئيسٍ مُصاب بجنونِ العظمةِ اتخذ من الدولةِ المصرية رهينة لبناء فُقاعة
زعامة فردية في العالم العربي، ومن المبارزات الخطابية الاستعراضية مع رؤساء وملوك
عرب آخرين ودول غربية وإسرائيل أداة لصرف انتباه المصريين عن المشكلات الداخلية
المتفاقمة، بينما كان وزير دفاعه، عبد الحكيم عامر، يركّز كلّ جهوده، ليس على
تطوير جيشه، بل على زيادة نصيبه الهائل بالفعل من كعكةِ السلطة، في دولة سقطت في
1952 رهينة بيد أشخاص غير مؤهلين، ولا يخضعون لأي محاسبةٍ أو مراجعة من أي مؤسّسة،
لكنهم يملكون ما يكفي من السلاح لإخضاعِ الآخرين، سواء من داخل تنظيم الضباط
الأحرار الذي نظم الانقلاب، أو ضدّ الشعب الذي زعموا أنّهم قاموا بالانقلاب من
أجله.
ربّما لن يمكن دفن انقلاب 3 يوليو (2013)، قبل
تشييع جثّة انقلاب 23 يوليو (1952) التي ما زالت تتعفّن في "سوفت وير"
جماعات المعارضة.