العدد 1678 /27-8-2025
علي أنوزلا
لم
يحدث في تاريخ الصحافة وفي تاريخ الحروب أن قُتل هذا العدد المهول من الصحافيين
كما يحدث اليوم في فلسطين المحتلة، وبالأخص على أرض غزة الشهيدة. في واحدة من أكثر
الصفحات سواداً في تاريخ الصحافة، يُسجَّل اليوم عددٌ لم يشهد له العالم مثيلاً:
244 صحافية وصحافيّاً فلسطينيّاً ارتقوا شهداء برصاص الاحتلال الإسرائيلي في حصيلة
غير مسبوقة في أي حرب معاصرة. كل هؤلاء الضحايا لم يسقطوا مصادفة، ولا نتيجة
"أضرار جانبية"، كما يحلو للدعاية الصهيونية تبرير جرائمها، بل اغتيلوا
عن سبق إصرار وترصّد وعلى الهواء مباشرة. قُتلوا لأنهم صحافيون، ولأنهم شهودٌ على
الحقيقة، فضحوا آلة القتل الإسرائيلية وهي تمارس جرائمها. بعضهم أُعدموا وهم
يحملون كاميراتهم، وبعضهم أبيدوا وأحرقوا وهم نيام تحت خيام لجوئهم، وبعضهم قُصفت
سياراتهم التي تحمل كل ما يشير إلى مهنتهم، وبعضهم استُهدفوا داخل المستشفيات،
وكلهم قتلوا بدم بارد ليصبح دم الصحافية والصحافي الفلسطيني دليلاً إضافيّاً على
أن إسرائيل لا تخشى شيئاً بقدر ما تخشى الصورة الصادقة والكلمة الحرّة.
ليست
الصدمة الكبرى في هول الجريمة في حد ذاتها رغم بشاعتها، بل في الصمت الدولي الذي
يحيط بها، فمع كل جريمة قتل جبانة، يسود صمتٌ عالمي خانقٌ يفضح ازدواجية معايير
الحكومات الغربية التي لا تتوقف عن إلقاء الدروس في حرية الصحافة وحقوق الإنسان،
لكنها اليوم تقف متقاعسة متخاذلة، بل وخائفة من اللوبي الصهيوني الذي يبسط هيمنته
على أغلب مراكز الحُكم في العالم. لو أن هؤلاء الصحافيين غربيون، كما حدث في أوكرانيا
حينما قُتل عدد محدود من الصحافيين الأجانب، لاهتزّت العواصم الغربية، وتحركت
المنظّمات وعقدت الاجتماعات الطارئة لسن العقوبات على عجل ضد الجناة. وبما أنهم
فلسطينيون، فإن استشهادهم يُمرَّر بلا صدى، وتُترك دماؤهم تجفّ في دهاليز النفاق
السياسي الغربي.
صمتُ
الحكومات الغربية، بل وتواطؤها، لا يوازيه سوى صمتُ المؤسّسات الصحافية الغربية
الكبرى التي تدّعي الدفاع عن زملاء المهنة، لكنها تلوذ اليوم ببرودٍ فاضح، وكأن دم
الصحافية والصحافي الفلسطيني أقل قيمة وشأناً من دم زميلهما الغربي. وبعضها تمارس
تواطؤاً يندى له الجبين: فبالإضافة إلى الصمت، ينضاف التبرير والبحث عن الأعذار،
والتبنّي المنحاز للرواية الصهيونية، التي تجرد الصحافي الفلسطيني من صفته ومهنته،
وتساهم في إعادة إنتاج صورته "ضحية غير مرئية"، تُسلب منه إنسانيته قبل
أن يُسلب منه حقّه في الحياة. يُضاعف هذا التواطؤ الإعلامي فظاعة الجريمة: فالقتل
لا يصبح مجرّد عمل عسكري، بل يتحوّل إلى عملية محو رمزي، إلى محاولة شطب رواية
كاملة من الوجود.
على
المستوى العربي، الصورة أكثر قتامة. لا تكتفي بعض الحكومات العربية ومؤسّساتها
الإعلامية الرسمية بالصمت والتجاهل، بل تذهب إلى أبعد من ذلك: التبرير وتأنيب
الضحية، وتحميله مسؤولية مأساته. ومن مفارقات بعض وسائل الإعلام العربية الرسمية
أنها تنقل بدقّة أخبار ضحايا حوادث السير والكوارث الطبيعية في أقاصي العالم،
لكنها تتجاهل عمداً المجازر اليومية التي تقع في غزّة والضفة الغربية، حيث يُقتل
عشرات الأبرياء، أغلبهم من الأطفال، نتيجة القصف المتعمّد للجيش الإسرائيلي وعلى
الهواء مباشرة. هكذا، يُغتال الفلسطيني مرّتين: مرّة برصاص الاحتلال، ومرّة بتجاهل
أخبار قتله في نشرات أخبار بعض التلفزيونات الرسمية لأنظمة عربية، وكأن الفلسطيني
ليس إنساناً جديراً بأن يُذكر اسمه حتى في شريط الأخبار الرسمية!
ما
نشهده اليوم ليس مجرّد انتهاك لقوانين الحرب أو خرقٍ سافر لاتفاقيات جنيف التي
تنصّ بوضوح على حماية المدنيين والصحافيين، إنّه تواطؤ جماعي ينسف فكرة العدالة
ذاتها. جرائم بهذا الحجم، وبكل هذه البشاعة والسادية والإمعان في التعمّد والقصد
المرضي، لو ارتكبها أي جيشٍ أو أي دولةٍ أو جهة أخرى كيف ما كانت، لأقامت الدنيا
وأقعدتها. لكن العالم، عندما يكون المجرم إسرائيليّاً والضحية فلسطينياً أو
عربياً، يشيح بوجهه حتى لا يرى الجريمة أو يعلم بوقوعها، ويُترك الجاني حرّاً
يواصل التلذذ بارتكاب جرائمه مطمئنّاً إلى حصانته وإفلاته من العقاب، خصوصاً إذا
كانت محكمتا العدل الدولية والجنايات الدولية تتحرّكان ببطء مريب، أو تتعثران تحت
وطأة الضغوط والعقوبات الأميركية على قضاتها، أو ربما لا تتحرّكان أصلاً، فذلك
يفتح الطريق أمام مزيد من الجرائم الانتقامية بدون الخوف من المحاسبة والعقاب. أي
رسالة يبعثها كل هذا العبث إلى العالم؟ الرسالة واضحة: هناك دماء
"مباحة"، ودماء "محصّنة". الفلسطيني، حتى لو كان صحافيّاً
يحمل الكاميرا أو ممرّضاً أو مسعفاً أو طبيباً، ليس جديراً بالحماية!
كان
يجب أن يصدم اغتيال الصحافيين في غزّة العالم لأن إسكات آخر الأصوات التي تُدين
الموت الصامت للأطفال الذين يعانون من المجاعة غرضه إغراق العالم في صمت مطبق، حتى
ينتهي المجرمون من تنفيذ جرائمهم. وإذا استمرّ تواطؤ الصمت على قتل الصحافيين في
غزّة، لن يبقى هناك مزيد من الشهود لينقلوا إلى العالم بشاعة الجرائم التي يرتكبها
الاحتلال يومياً، إما لأنهم سيُقتلون وينضمّون إلى قائمة أكثر من 62 ألف شهيدة
وشهيد منذ بدء هذه الحرب الإجرامية، أو لأنهم لن يعودوا قادرين على القيام بعملهم،
ليس خوفاً، وإنما بسبب الإصابات والإنهاك والجوع الذي يفتك بالغزيين في صمتٍ منذ
نحو ستة أشهر ونيّف.
إلى
متى هذا الصمت؟ إلى متى هذا الخوف من إسرائيل؟ وأين هي المبادئ التي قامت عليها
أعرق التقاليد الصحافية في العالم؟ وكيف يمكن للصحافة أن تظلّ مهنةً نبيلةً إذا
تواطأ من يمارسونها بالصمت على قتل زملائهم أو تبرير قتلهم؟ نحن اليوم أمام
امتحانٍ أخلاقي قاسٍ: إما أن يتحرّك العالم لوقف قتل الصحافيين والمسعفين والأطباء
والأبرياء الفلسطينيين، أو أن نقرّ جميعاً بأننا شركاء في الجريمة بالصمت، وشركاء
في قتل آخر شهود الحقيقة. وهنا تكمن مسؤولية الصحافة الدولية، لأن منعها من دخول
القطاع لا يعفيها من مسؤوليتها، وإنما يجعلها متواطئةً مع المجرم، لأنها سكتت عن
الدفاع عن حقها في التغطية والإعلام. هل كانت هذه الصحافة ستسكُت لو تعلق الأمر
بحربٍ أخرى أو دولة أخرى غير إسرائيل منعتها من حقها في ممارسة واجبها؟ هذه أول
حرب، وليست ككل الحروب في بشاعتها، يمنع فيها الإعلام الدولي من تغطيتها ولا يحرّك
ساكناً! وسائل الإعلام الدولية الكبرى، وفي مقدمتها وسائل الإعلام الغربية،
وخصوصاً إعلام الدول التي تساند إسرائيل مادياً وعسكرياً، يمكنها أن تضغط على قادة
إسرائيل بمقاطعة ندواتهم وتصريحاتهم الصحافية، والامتناع عن ترويج روايتهم. أما
منظّمات حماية الصحافيين فمن واجبها إطلاق حملات مناصرة ودفاع لحماية من تبقوا من
الصحافيات والصحافيين الفلسطينيين في غزّة، والإعلان عن يوم حداد رمزي في جميع
وسائل الإعلام الدولية يتوقف خلاله البث والنشر دقائق معدودة وتتشح فيه الشاشات
والصفحات الأولى للصحف بالسواد حداداً على أرواح الصحافيين ضحايا الواجب المهني.
الصحافيون
الفلسطينيون الذين يسقطون يوميّاً لا يمثلون أنفسهم فقط، ولا حتى شعبهم وحده، إنهم
يمثلون جوهر المهنة نفسها. فهم شهود الحقيقة، وحرّاس الذاكرة، وحين يُقتل هؤلاء،
ولا يهتز العالم، فإن الرسالة الموجهة إلينا جميعاً هي أن الحقيقة نفسها قابلة
للقتل، إن لم تكن فعلاً قد قتلت مراراً وتكراراً في حرب الإبادة المستمرّة في
غزّة. صمت العالم ليس مجرّد تقاعس أو خذلان، بل هو مشاركة غير معلنة في الجريمة،
لأن المشاركة بالصمت لا تقلّ بشاعةً عن المشاركة بالفعل. لقد حان الوقت لأن يتحرّك
المجتمع الدولي، ليس فقط لإدانة إسرائيل، بل لوقف هذا المسار الانحداري الذي حوّل
الصحافة إلى مهنةٍ بلا حماية، وحوّل الحقيقة إلى هدفٍ من أهداف الحرب، وجعل من
ناقلها ضحيةً من ضحاياها. أوقفوا قتل الصحافيين، أوقفوا قتل شهود الحقيقة،
فالتاريخ لن يرحم هذا التواطؤ، وسيكتُب أن عصرنا هذا كان العصر الذي باع القيم
والأخلاق في سوق النخاسة السياسة، وترك أسمى المهن وأنبلها تُغتال على الهواء
مباشرة!