العدد 1666 /4-6-2025

سامر إلياس

في تعليقٍ مقتضب في قناته على تطبيق "تليغرام"، أوضح نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديميتري مدفيديف، أمس الثلاثاء، الهدف الرئيسي من مشاركة روسيا في مفاوضات إسطنبول مع الجانب الأوكراني، التي شهدت أول من أمس الاثنين، جولتها الثانية، بعد أولى عقدت في 15 و16 مايو/أيار الماضي. وأوضح مدفيديف، الرئيس الروسي السابق الذي تحوّل واحداً من صقور الكرملين في السنوات الأخيرة، أن فحوى المذكّرة الروسية التي نشرت الاثنين، والتي سلّمت إلى الجانب الأوكراني (وحملت المذكّرة عنوان: من أجل تسوية مستقبلية، بحسب وكالة تاس للأنباء)، تكمن في أنّ "محادثات إسطنبول ليست من أجل التوصل إلى سلام توافقي بشروط غير واقعية اخترعها شخص ما، بل لضمان انتصارنا السريع والتدمير الكامل لنظام النازيين الجدد"، في إشارة إلى السلطات الأوكرانية، وشدّد مدفيديف على أنّ الانتقام من الضربات الأوكرانية في عمق الأراضي الروسية قادم لا محالة، في إشارة إلى الهجوم الكبير الذي شنّته أوكرانيا الأحد الماضي، بطائرات من دون طيار على الأراضي الروسية، الذي طاول قواعد جوية روسية، منها في الدائرة القطبية الشمالية، لكن مدفيديف أشار إلى أن الجيش الروسي يتقدم ويواصل التقدم، وكتب: "كل ما يجب تدميره سيُدمّر، وأولئك الذين يجب القضاء عليهم سيُقضى عليهم".

وتكشف تصريحات مدفيديف بوضوح عن مخططات الكرملين بشأن الحرب في أوكرانيا، ونظرته لأيّ تسوية سياسية ممكنة، ورهانات القيادة الروسية على استمرار التفاوض تحت النار لإجبار أوكرانيا على تقديم تنازلات، مع عدم الظهور طرفاً غير منفتح على التفاوض لتجنّب رد فعل عكسيّ من إدارة الرئيس دونالد ترامب، التي بدا أنها تُحابي روسيا على حساب أوكرانيا.

وعرضت روسيا على الوفد الأوكراني المفاوض أول من أمس، مذكّرة حملت شروطاً لوقف الحرب، وذلك خلال مفاوضات السلام بين البلدَين في إسطنبول. وشملت المطالب تنازل أوكرانيا عن مزيد من الأراضي، وتحولها إلى دولة محايدة، وقبولها قيوداً على حجم الجيش الأوكراني، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة. واتفق الجانبان في المحادثات التي استمرت ساعة واحدة فحسب على تبادل جديد لأسرى الحرب، وتبادل 12 ألف جندي قتيل، لكنّهما لم يتفقا على وقف النار الذي تضغط أوكرانيا وحلفاؤها على روسيا لقبوله.

روسيا تتجاهل الهجوم الأوكراني

وبدا أن مواقف إدارة ترامب، وتقدم الجيش الروسي غير المسبوق منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، دفعت المفاوضين الروس إلى مزيد من التشدّد، وشجّعت الكرملين على طرح شروط للهدنة ووقف الحرب أقرب ما تكون إلى إعلان أوكرانيا استسلامها وفق شروط الطرف المنتصر. وبحسب بيانات مشروع "أوسينت ديب ستيت" المقرّب من وزارة الدفاع الأوكرانية، فإن روسيا احتلت 457 كيلومتراً مربعاً في شهر مايو/أيار الماضي وهو أعلى معدل لتقدم الجيش الروسي منذ خريف 2024. واحتل الجيش الروسي 229 كيلومتراً مربعاً بالقرب من توريتسك وبوكروفسك، ما يهدّد بقطع الطرق الرئيسية المحيطة بمدينتَي سلافيانك وكراماتورسك، وهما آخر مدينتَين كبيرتَين حافظت أوكرانيا عليهما منذ بداية الحرب، ويعني سقوطهما فعلياً السيطرة على كامل مقاطعة دونيتسك. وأعلنت وزارة الدفاع الروسية، أمس، أن قواتها سيطرت على قرية أندرييفكا في منطقة سومي شمال شرقي أوكرانيا، إذ قتل شخصان وأصيب نحو 20 آخرين، وفق رئيس الإدارة العسكرية الإقليمية في سومي أوليغ غريغوروف. من جهتها، أعلنت السلطات الروسية، أمس، انقطاع التيار الكهربائي عن مقاطعة زابوروجيا، بسبب قصف أوكراني استهدف المعدات في محطات الجهد العالي في الجزء الشمالي الغربي من المقاطعة، كما أعلن جهاز الأمن الأوكراني، أمس، "تنفيذ عملية فريدة من نوعها بتفجير في جسر القرم للمرة الثالثة عبر تفخيخ من تحت الماء"، مضيفاً أن "عملاءنا فخّخوا دعامات جسر القرم وفجروا 1100 كيلوغرام من المواد المتفجرة دون إصابة مدنيين"، وأن الجسر "أصبح في حالة طوارئ".

وعلى خلفية التقدم الروسي على الأرض، وفي تجاهل كاملٍ لتبعات الضربة الأوكرانية في العمق الروسي، وثّقت موسكو الشروط التي تستعدّ بموجبها لإبرام معاهدة سلام. وأظهرت نسخة من المذكّرة الروسية، التي نشرتها وكالات الإعلام الروسية الرسمية، أن موسكو وسّعت نطاق مطالبها مقارنةً بالجولة الأولى من المحادثات، وأن شروطها أقرب ما تكون إلى إملاءات دولة انتصرت في حرب كبرى.

وقال رئيس وفد المفاوضين الروس، معاون الرئيس الروسي، فلاديمير ميدينسكي، أول من أمس، تعليقاً على جولة المحادثات في إسطنبول، إنّ "الجانب الروسي راضٍ عنها"، لكنّ الكرملين اعتبر، أمس، أنه من الخطأ توقع تحقيق اختراق سريع باتجاه تسوية النزاع "المعقد للغاية" في أوكرانيا. وقال المتحدث باسمه دميتري بيسكوف، إنه "سيكون من الخطأ توقع حلول واختراقات فورية"، موضحاً أن"مسألة التوصل إلى تسوية معقّدة للغاية وتشمل الكثير من المسائل الدقيقة" التي يتعيّن حلّها، وذكر أن موسكو تريد قبل كل شيء "القضاء على الأسباب الجذرية للنزاع" لتحقيق السلام مع كييف. إلّا أنه أشاد بالاتفاقات "المهمة" التي جرى التوصل إليها في إسطنبول، مؤكداً أن "العمل سيستمر"، وتابع: "ننتظر رداً على المذكّرة التي جرى إرسالها". وفي 19 مايو/أيار الماضي، دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كييف إلى إيجاد "حلول وسط". ويوم أمس، لم يرغب المتحدث باسمه في "كشف" هذه "الحلول الوسط" المحتملة، واعتبر أنه "من المستبعد" في المستقبل "القريب" أن يعقد اجتماع بين بوتين ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو اللقاء الذي اقترحته تركيا أول من أمس وطلبته كييف.

خياران أمام أوكرانيا في وثيقة استسلام

وتنقسم الوثيقة التي قدّمها الوفد الروسي إلى نظيره الأوكراني، أول من أمس، إلى ثلاثة أقسام؛ يتضمّن القسم الأول "المعايير الرئيسية للتسوية النهائية"، ويتضمن القسم الثاني "خيارين" لشروط وقف إطلاق النار، ويتضمن القسم الثالث تسلسل تنفيذها.

وبحسب الوثيقة تتضمن الشروط الروسية لإنهاء الحرب:

- الاعتراف الدولي القانوني بانضمام شبه جزيرة القرم، وجمهورية لوغانسك، وجمهورية دونيتسك، ومقاطعتَي زابوروجيا وخيرسون إلى الاتحاد الروسي، والانسحاب الكامل للوحدات التابعة للقوات المسلّحة الأوكرانية وغيرها من التشكيلات العسكرية الأوكرانية من أراضيها.

- حياد أوكرانيا، بما يتضمن تخليها عن الانضمام إلى تحالفات وتكتلات عسكرية، وحظر أي نشاط عسكري لدول ثالثة على أراضي أوكرانيا أو نشر تشكيلات عسكرية أجنبية أو قواعد عسكرية أو بنية تحتية عسكرية هناك.

- وقف العمل والامتناع عن إبرام أي معاهدات أو اتفاقات دولية في المستقبل تتعارض مع أحكام الفقرة 2 من هذا القسم.

- تأكيد وضع أوكرانيا دولةً غير حائزة لأسلحة الدمار الشامل النووية وغيرها، مع فرض حظر صريح على قبولها أو عبورها أو نشرها على الأراضي الأوكرانية.

- تحديد الحد الأقصى للقوات المسلّحة الأوكرانية والتشكيلات العسكرية الأخرى في أوكرانيا، والحد الأقصى لكمية الأسلحة والمعدات العسكرية ومواصفاتها المسموح بها، وحل التشكيلات القومية الأوكرانية ضمن القوات المسلحة والحرس الوطني.

- ضمان الحقوق والحريات والمصالح الكاملة للسكان الناطقين بالروسية ومنح اللغة الروسية وضع لغة رسمية.

- حظر قانوني على تمجيد الدعاية للنازية والنازية الجديدة، وحل المنظمات والأحزاب القومية.

- رفع جميع العقوبات الاقتصادية المفروضة حالياً والامتناع عن فرض عقوبات أو قيود أو إجراءات مقيّدة جديدة بين الاتحاد الروسي وأوكرانيا.

- حل مجموعة من القضايا المتعلقة بتجمع شمل الأسر والأشخاص النازحين.

- التخلي عن المطالبات المتبادلة في ما يتعلق بالأضرار الناجمة عن الأعمال القتالية.

- رفع القيود المفروضة على الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية (التابعة للكنيسة الأرثوذكسية الروسية)

- استئناف العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية تدريجياً (بما في ذلك عبور الغاز)، واستئناف حركة النقل والاتصالات الأخرى، بما في ذلك مع دول ثالثة.

ومن الواضح أن هذه الشروط هي مزيج بين المذكّرة التي قالت روسيا إنه جرى التفاهم عليها مع الوفد الأوكراني في ربيع 2022، قبل قرار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وقف التفاوض بناء على نصائح من رئيس الحكومة البريطانية حينها، بوريس جونسون، والبيان الذي تلاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم إطلاق الحرب في 22 فبراير/شباط 2022، والشروط الإضافية التي عرضها بوتين في يونيو/حزيران 2024، إضافة إلى مسودة الاتفاقية التي أرسلتها موسكو إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) منتصف ديسمبر/كانون الأول 2021 بشأن عدم جواز توسع الحلف في شرق أوروبا، وعدم نشر قواعد عسكرية في جوار روسيا على خلفية تقارير بشأن استعداد روسيا لغزو أوكرانيا.

ومن المؤكّد أن أوكرانيا سوف ترفض على الأرجح معظم هذه الشروط، وتعتبرها شروط استسلام. واللافت أن روسيا تطالب أوكرانيا بالانسحاب من مدن كبرى مثل زابوروجيا وخيرسون وكراماتورسك وسلافيانسك التي يحتاج احتلالها شهوراً وربما سنوات وفق وتيرة تقدم الجيش الروسي منذ بداية الحرب، والتحصينات الأوكرانية. ورفضت كييف سابقاً تقييد عدد الجيش وعتاده، وبأسوأ الحالات يمكن أن توافق على هذا البند مع ضمانات أمنية تقدمها دول عدّة، مع تعهدات بإجراءات لضمان أمن أوكرانيا وسلامة أراضيها ومن بينها ضمانات تشبه البند الخامس من ميثاق "ناتو" عبر التدخل عسكرياً لحماية أوكرانيا، وفرض عقوبات اقتصادية قاسية في حال حدوث خرق روسي، كما حصل مع وثيقة بودابست في 1994، حين تخلت أوكرانيا عن السلاح النووي مقابل ضمان وحدة أراضيها بحسب إعلان الاستقلال في 1991.

وفي القسم الثالث المحدّد لتسلسل الخطوات والمواعيد النهائية لتنفيذ المذكّرة، ترى روسيا أنه يجب بدء العمل على نصّ المعاهدة، يليها إعلان هدنة لمدة 2-3 أيام لجمع جثث القتلى في "المنطقة الرمادية"، وبعدها تسليم الجانب الأوكراني من جانب واحد ستة آلاف جثة من جنود القوات المسلحة الأوكرانية.

ومن المستبعَد أن توافق أوكرانيا على معظم البنود، والمبدأ الروسي في التعامل معها دولةً منقوصة السيادة. ورغم الرفض الأوروبي المطلق للعرض الروسي انطلاقاً من أنّ أي تنازلات قد تفتح شهية بوتين للتدخل في مولدوفا وحتى في بلدان البلطيق السوفييتية السابقة، حسب تقديرات أوروبية، فإنّ العامل الحاسم في تحديد مسار المستقبل ما زال على الجهة الأخرى من المحيط وتحديداً في يد الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقراره بشأن دعم أوكرانيا سياسياً وعسكرياً من عدمه.