قاضي الإعدامات أمام قاضي السماء
العدد 1663 /14-5-2025
محمد طلبة رضوان
حين يغيب العدل عن ساحات القضاء، يصبح الموت القاضي البديل.
هذا مضمون الرسالة التي حملتها آلاف الحسابات في مواقع التواصل الاجتماعي في
"ليلة القبض على شعبان الشامي"، وترحيله من منصّة الحكم إلى منصّة الحاكم،
في ليلة الحساب. هذه هي العدالة التعويضية التي حصل عليها آلاف الضحايا، دفتر
عزاءات الآباء الذين فقدوا أبناءهم، والأبناء الذين فقدوا آباءهم وأمّهاتهم
وأشقّاءهم وأسرهم وأوطانهم وحيواتهم، مُقدَّم أتعاب وأوجاع، وثارات معلّقة بين
السماء والأرض، رسائل "محكمة الذاكرة الجماعية" إلى صاحب "ولا
تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون، إنما يؤخّرهم...".
لا يحكم القاضي في مصر وفق الأوراق، كما تشيع حسابات الكتائب
الإلكترونية للنظام، بل وفق عقيدته، وقناعته، ويقينه، ما استقرّ في وعيه، وفي
عقله، وفي قلبه، وفي ضميره. هكذا تنصّ المادة 302 من قانون الإجراءات الجنائية
المصري: "بعد نظر الدعاوى أمام المحكمة عن بصر وبصيرة، تكون (عقيدتها) في
الدعوى، وتفصل فيها بعد سماع أقوال الشهود وفضّ الأحراز ومرافعة النيابة
والدفاع"، وتنصّ المادة نفسها أنّ "كلّ قولٍ يثبت أنه صدر من أحد
المتهمين أو الشهود تحت وطأة الإكراه أو التهديد به يُهدر ولا يُعوَّل عليه".
هذا كلام واضح، وصريح، ومباشر، والحقّ أن الشامي لم يعمد إلى تزويره أو تأويله أو
تحويره أو حرفه عن مساره، بل إلى تجاهله تماماً ونهائياً. وقف الشاب محمود الأحمدي
(25 عاماً) أمام الشامي، وأخبره أنه مظلوم، وأنه بريء، وأنه خصيمه يوم القيامة،
وأنه ومن معه لم يقتلوا النائب العام هشام بركات، ولم يقتلوا أحداً، وأن
الاعترافات المدوّنة في الأوراق جرى انتزاعها بالتعذيب بالكهرباء. قال الأحمدي ذلك
بوضوح، وبصوت عالٍ، وفي الميكروفون، وفي وجه القاضي، وفي عين الكاميرا، ومع ذلك
رفض الشامي أن يسمع صرخات الجسد المعذّب، وأصغى إلى همسات الأجهزة السيادية،
واعتمد ذبذبات الصاعق الكهربائي عنواناً للحقيقة، وحكم بالإعدام، وهو الحكم الذي
يتعارض مع القانون المصري، الذي يُلزم القاضي، بعد شهادة الأحمدي، ألّا يعتدّ
بالاعترافات المكتوبة، وأن يعيد القضية إلى التحقيق، على أقلّ تقدير لشبهة انتزاع
الاعترافات بالتعذيب.
لم تكن واقعة إعدام الشباب الذين تعرضوا للتعذيب هي الوحيدة
التي ينتهك فيها الشامي نصوص القانون والدستور، فقضية الرئيس السابق محمد مرسي
نفسها قامت على انتهاك صريح للدستور المصري، الذي ينصّ في المادة 152 من دستور
2012 على تشكيل "محكمة خاصّة" لمحاكمة رئيس الجمهورية، أي أن وجود
الشامي نفسه على منصّة القضاء كان انتهاكاً دستورياً، وهو أول ما دفع به محامو
مرسي، الذين أخبروا الشامي بـ"عدم اختصاص" المحكمة، ناهيك عن بطلان
الإجراءات، وانتفاء القصد الجنائي، وعدم صحّة الاعترافات، وغياب الأدلة المادّية،
لكنّ الشامي تجاهلهم تماماً، واستمرّ بالنظر في الدعوى، وأصدر أحكامه بالإعدام
وبالمؤبّد.
من المهم هنا أن ندرك، وفق مقرّرات الواقع، أن الشامي ليس
حالةً فرديةً، بل "حالة قضائية"، حلّت فيها الشخصنة محلّ المؤسّساتية،
والسلطة محلّ القانون، والقدرة محلّ الواجب، كما أن لقب "قاضي
الإعدامات" لا يصف شخصاً، بل منظومةً فارغةً من العدالة، كارهةً لها، محذّرة
منها، ناظرة إليها بوصفها تهديداً لـ"المصلحة الوطنية". ولذلك تجاوزت
التعليقات على موت الشامي حدود شخصه إلى جهة انحيازه، كما تجاوزت حدود انحيازات
المعلّقين وأيديولوجيّاتهم السياسية إلى وطأة إحساسهم الجماعي بالظلم، الذي لم
يستثنِ أحداً. علّق "الإخوان"، وعلّق اليساريون، وعلّق الليبراليون،
وعلّق السلفيون، وعلّق العلمانيون، وعلّق السجناء السابقون، وعلّق أهلهم وذووهم
وأصدقاؤهم، وعلّق المتورّطون في العمل السياسي، وعلّق المتابعون، الصامتون،
الخاضعون، علّق الجميع، واحتفل الجميع، ولم يأبه أحد بمزايدات أبواق السلطة
وتهديداتهم. حتى أولئك الذين تجاوزوا، وفق المُعلَن من خطاباتهم، حدود التصوّرات
الدينية والاعتقاد الغيبي في الإله، واليوم الآخر، والثواب والعقاب، علّقوا،
واحتفوا، ليس بالعقوبة الأخرويّة، بل بتوقّف "القدرة على الإيذاء".
فالموت هو العدالة السلبية، والعقوبة الوحيدة التي لن يستطيع القاضي تكييفها وفق
مصالحه.