صلاح الدين الجورشي
تعيش تونس هذه الأيام تحت وقع حدثين مهمين، اختلفت حولهما المواقف، وتركا وراءهما تساؤلاتٍ جدّية حول مدى قدرة الائتلاف الحاكم على إخراج البلد من النفق الذي يؤكد التونسيون جميعاً أنه طال أكثر من اللزوم.
تمثل الحدث الأول في الحركة الاحتجاجية التي شلّت ولاية تطاوين، حيث ساند سكانها اعتصام بعض شبابها الذين يعانون من البطالة والتهميش. كانت الولاية هادئةً، حتى ظن أصحاب القرار أنها ستبقى مبتسمة دائماً، على الرغم من النفط الذي يستخرج من تحت ترابها دون أن يقترن بجهود تنموية جادة وملموسة. لكن الوقائع الأخيرة أثبتت أن ذلك السكون لم يكن سوى حالة من الغليان الداخلي الذي انفجر فجأة في وجه السلطة المركزية، محدثاً رجّة لم تكن متوقعة.
في ضوء ذلك، قرّرت الحكومة التوقف قليلاً لفحص الحاجيات المستعجلة لهذه المحافظة التي تعتبر الأكبر حجماً والأقل عدداً للسكان. بعد البحث، تحوّل رئيس الحكومة مصحوباً بعشرة وزراء، وجمع ممثلين عن هذا الحراك الاحتجاجي، وكان ينتظر أن يستبشر هؤلاء بالقرارات الجديدة (64 قراراً)، وإذا بهم ينفجرون في وجه الرئيس يوسف الشاهد ومن معه، معلنين رفضهم ما أعلن عنه، ورأوا فيه «مسخرة» واحتقاراً لنضالاتهم، ما أحدث حالةً من الفوضى والارتباك، انتهت بانسحاب القادمين من العاصمة الذين عادوا من حيث أتوا، يجرّون وراءهم إحساساً قوياً بالغضب والمرارة، تلاحقهم شعارات المواطنين الذين اصطفوا حول قافلة السيارات الحكومية.
على الرغم من مرور سبع سنوات تقريباً على أحداث 14 يناير، لا يزال الشباب التونسي قادراً على رفع صوته عالياً للتعبير عن إحساسه بالضيم والظلم الاجتماعي. لم تعد تعنيه كثيراً السلطة التنفيذية بكل مكوّناتها ورمزيتها. لم يقبلوا حتى فكرة التفاوض، وكانت شعاراتهم تحوم حول رفض التنازل عن مطالبهم التي كان سقفها عالياً جداً بالنسبة لقدرات الحكومة: التشغيل الفوري لشاب من كل أسرة ضعيفة، والإعلان عن اقتطاع 20% من مبيعات النفط لصالح الولاية، أي العودة إلى مناقشة إخضاع الثروات الوطنية لمبدأ المقاسمة بين الجهات.
تمثل الحدث الثاني في الحركة الاحتجاجية التي نظمت في شارع الحبيب بورقيبة، حيث تجمع آلاف من التونسيين، معظمهم شباب، رافعين شعار «مناش مسامحين»، عبروا من خلاله عن رفضهم المحاولة الثالثة التي يقدم عليها رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي، لتمرير مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية، وهو المشروع الذي يعتبره المدافعون عنه ضرورة لتنشيط الحركة الاقتصادية، وإعادة الثقة لدى الموظفين في الإدارة إلى جانب رجال الأعمال، في حين يعتقد رافضوه أنه محاولة للتطبيع مع الفساد والمفسدين.
في كل من الحادثتين، يجد الائتلاف الحاكم نفسه أمام اختبار حقيقي، يتعلق بشرعيته السياسية. فهذا الائتلاف يتمتع بالأغلبية البرلمانية، وتدعّمت هذه الشرعية بما سمي إعلان قرطاج الذي بمقتضاه اتسعت رقعة داعمي الحكومة التي أصبحت تحمل اسم «حكومة الوحدة الوطنية». ففي ولاية تطاوين، عجز الائتلاف الحاكم بأحزابه، بما في ذلك حركة النهضة التي تعتبر هذه المنطقة منطقتها الانتخابية الرئيسية، عن تسويق حزمة قراراتٍ هي بالتأكيد في صالح الجهة وسكانها. وفي الحالة الثانية، يملك رئيس الجمهورية من الناحية النظرية أغلبية، لكن ليس من مصلحته، ولا من مصلحة الأحزاب المتحالفة، وخصوصاً حركة النهضة، تجاهل عشرات الآلاف الذين سينزلون تباعاً إلى الشارع، لاتهام السلطة القائمة بحماية الفساد والفاسدين. فالانتخابات البلدية على الأبواب، والجميع يراجعون اليوم حساباتهم ودفاترهم.
لا يتعلق الأمر حالياً بالفساد من عدمه، إذ لا شك في أنه قد أصبح غولاً يشغل التونسيين ويقضّ مضاجعهم، وإنما يتمثل التحدّي الراهن في مدى استعداد الحاكمين اليوم في تونس للدفاع عن اختياراتهم، وتنفيذ سياساتهم، وذلك بقطع النظر عن مدى صحة هذه السياسات أو خطئها. ضجر التونسيون من أسلوب الأيادي المرتعشة الذي كان، ولا يزال، السمة الغالبة على الحكومات السبع التي تعاقبت على السلطة بعد الثورة، دون أن تغير أشياء حقيقية على الأرض.}